الدكتور أحمد زويل يكتب لـ (الشروق): مصر الأمل .. ثلاثية الرؤية
آخر تحديث: الاحد 15 مايو 2011 11:32 ص بتوقيت القاهرة
تعليقات: 64شارك بتعليقك
-
جاءت ثورة الخامس والعشرين من يناير، لترفع الستار عن وجود قوة مؤثرة من الشباب المصرى، له من المبادئ والآمال والقدرة على الفعل والتغيير بصورة لم يكن يتوقعها الغالبية فى مصر أو فى العالم الغربى.
قبيل مغادرتى القاهرة بعد أيام من تنحى السيد حسنى مبارك عن حكم مصر، فى الحادى عشر من فبراير، التقيت إسراء، فتاة مصرية من قيادات الثورة، وسألتها عن الهدف الذى كان لدى الشباب عندما أطلقوا ثورتهم فى ميدان التحرير، ومختلف أرجاء ومحافظات مصر، فأجابتنى أن الهدف كان «تغيير النظام».
ولقد تمكن الشعب المصرى من خلال الثورة وفى 18 يوما، أن يُسقط رأس النظام، وينهى 30 عاما من حكم فردى وشمولى.
وبنظرة موضوعية، يجد المرء نفسه أمام عملية تحول ديمقراطى تشمل إنهاء آثار الحكم السابق وإظهار معالمه، خاصة الفساد الذى كان متفشيًا فى أرجاء وأعماق الوطن، والتحرك نحو حقبة جديدة من تاريخ مصر. وبالفعل، فإن التحولات التى شهدتها مصر خلال الشهور الثلاثة الماضية، تعد تحولات كبرى، خاصة إذا ما قارناها بالشهور الثلاثة ــ أى نفس المدة ــ التى سبقت بدء ثورة الخامس والعشرين من يناير.
الثورة النموذجية
ومن أهم ما يميز الثورة المصرية عن غيرها من الثورات العربية التى يتعرض أبناؤها لإراقة دمائهم من أقبلة الأنظمة فى ليبيا واليمن وغيرهما، أن هذه الثورة مثلت وحدة رائعة بين أبناء الشعب المصرى وبين الشعب وقواته المسلحة. فى الوقت نفسه، فإننا عندما نتابع تفاصيل الفساد الذى عاش به النظام السابق، والذى كشف عنه مع سقوط رأسه، لابد لنا وأن نشعر بأن مصر كانت محروسة بالفعل، كونها لم تتعرض لعملية إفلاس كاملة بالرغم من كل هذا الفساد. والرائع واللافت للنظر فعلا هى قدرة الشعب المصرى على التخلص من قيود خوف كبلته لعقود، فكسرها، وتجاوز سنوات من القهر والظلام تعرض لها.
ولهذا كله، فإن الثورة المصرية تمثل نموذجًا فريدًا لتحقيق التغيير فى منطقة الشرق الأوسط. ومن ينظر فى الشأن المصرى، سيدرك على الفور أنه، وبالرغم من اختلاف عقائد أبناء هذا الشعب، وهو الاختلاف الذى يمكن أن ينجم عنه فى بعض الأحيان بعض التوترات أو المشاحنات، فإن الشعب المصرى يبقى فى نهاية الأمر شعبا موحدا، غير قابل للانقسام على أى أساس قبلى أو الوقوع فى فتن طائفية بالمعنى الكامل للكلمة. فالشعب المصرى يجمعه تاريخ مشترك وميراث ثقافى عريق يبقيه دوما موحدا فى إطار الحضارة المصرية «أم الدنيا».
وفى هذا يختلف النموذج المصرى عن البلدان الأخرى التى بها من التمايز القبلى والثقافى ما يمكن أن يفتح الباب أمام سيناريوهات للفوضى، بل ربما الحروب الأهلية، وهو ما يعنى أن منطقة الشرق الأوسط بأسرها يمكن أن تقع فى براثن النزاعات والتعصب، وهو أيضا ما سيدفع بالمنطقة نحو الخلف بدلا من الأمام.
ولذلك، فمن الضرورى أن تنجح الثورة المصرية فى تتويج أهدافها لتكون نموذجا قابلا للاستلهام فى حالات أخرى. والثورة المصرية فى رأيى حالة مركزية ومهمة لأن مصر التى يبلغ الآن تعداد سكانها الـ 85 مليون نسمة هى أكبر الدول فى منطقة الشرق الأوسط، كما أنها مركز ثقل العالم العربى لدورها المحورى فى السياسة والثقافة والمعرفة، وأيضا للمكانة التاريخية للأزهر الشريف. إن القوة الفكرية الهائلة والكامنة فى الشعب المصرى ما زالت قادرة على إعادة مصر لهذا الدور الريادى حتى بعد التراجع الملموس فى العقود السابقة.
وعلى المستوى العالمى فإن نجاح التجربة المصرية هو أمر أساسى لضمان الاستقرار الذى من شأنه الحفاظ على أمن الإقليم وإرساء الديمقراطية وأيضا تدفقات النفط والغاز من منطقة الشرق الأوسط لضمان إمدادات الطاقة فى العالم أجمع. والغرب يجب أن يقدم الدعم لهذه الثورات الشعبية فى العالم العربى، والتى تهدف بالأساس لتحقيق الديمقراطية، ذلك الهدف الذى لم يتمكن من تحقيقه بالحرب على العراق فى 2003 رغم تكلفة بلغت تريليونات الدولارات.
الديمقراطية والفوضى
ومع كل ما حققته الثورة المصرية من إنجازات، ومع كل ما تميزت به، بل وكل ما كشفت عنه من تحضر للشعب المصرى فإن هناك أمورًا توالت بعد انتهاء الثورة لا تتفق حسبما أراها مع قواعد الديمقراطية المتعارف عليها ولا مع قواعد الوطنية المصرية للثورات السابقة. ومن ذلك التباين الكبير بين التألق الرائع للوحدة الوطنية التى عاشتها مصر أياما متتالية فى ثورتها التى تجسدت فى ميدان التحرير، حيث تداعت أى حواجز زائفة بين مسلمى الوطن وأقباطه، وأن نعود بعد أسابيع قليلة من انتهاء الثورة لنطالع أنباء مؤسفة ومؤلمة عن تشاحنات بين مسلمين وأقباط أو مسلمين بعضهم وبعض. ولا يمكن بمنطق الثورة السلمية والشريفة أن يفسر المرء ما حدث من قطع الطرق ووقف القطارات ويصل الحد لإحراق بيوت العبادة ورفع أعلام لدول أجنبية على أرض الكنانة.
من المفهوم أنه بعد أى ثورة توجد فئات ومجموعات لديها أهداف ومصالح تسعى لتحقيقها من خلال عمليات شحن عشوائى لمشاعر البعض، ولكن هؤلاء سيكونون فى النهاية، وعندما تقام الدولة الديمقراطية بكامل أركانها، الخاسرين، لأن الغلبة ستكون للشعب المصرى القادر دوما على أن يظهر معدنه الحقيقى فى ظل كل الصعوبات، ولأن الغالبية العظمى من الشعب المصرى لا تريد الانجراف وراء التشاحن والفوضى، وإنما تسعى لبناء دولة ديمقراطية حديثة.
بناء المستقبل
والسؤال إذن هو، ماذا ينبغى أن نفعل فى هذه المرحلة؟ ومن منطلق خبرتى فى الدعوة والحث على تحقيق التغيير عبر عقدين من الزمن، ولأننى كنت طرفا مفاوضا أثناء الثورة المصرية، سواء من خلال التخاطب مع شباب الثورة أو مع الحكومة المصرية فى حينه، فإننى أعلم يقينا أن أهم ما يسعى إليه الشباب فى مصر هو مستقبل جديد، مستقبل يقدم لهم حياة تختلف عن تلك التى عاشوها فى ظل النظام القديم ومستقبل لتحقيق الإنتاج والتقدم، الذى يليق بمكانة مصر على المستويين العربى والعالمى.
مستقبل مصر الواعد يتطلب بالضرورة استقرار الوحدة الوطنية ليسعى الشعب متكاتفا لتحقيق أهداف ثلاثة أراها حتمية لبناء الدولة الديمقراطية، اقتصاديا وسياسيا. وعليه فإن ثلاثية الرؤية تتمثل فى:
● (البعد السياسى) والذى أساسه يكون بناء الهيكل الحقيقى لنظام الحكم الديمقراطى الرشيد بما فى ذلك عدالة تطبيق القانون، ضبط أمن البلاد والانتقال إلى الشرعية الدستورية لحكم مستقر مبنى على مبادئ الثورة.
● (البعد الاقتصادى) والذى يتطلب فى المدى القريب التحرك السريع نحو عودة الإنتاج إلى ما كان عليه مع إصلاحات فى المؤسسات الاقتصادية، وفى نفس الوقت فلابد من وضع رؤية شاملة لرفع الإنتاج المصرى والدخل القومى، وإصلاح الوضع المؤسوى لمحدودى الدخل.
● (البعد القومى للنهضة) ولهذا البعد رؤية خاصة حيث فيه يلتحم الشعب مع الحكومة فى تبنى «مشاريع أحلام الوطن» والتى عن طريقهم يتم بناء جيل المستقبل ودفع مصر إلى مكانة العالم الأول، وتحديث العالم العربى ككل.
وهناك بعد رابع، بالمقارنة مع علوم الكون الطبيعية، هذا البعد يحدد ديناميكية العلاقة بين الجيش والحكومة من طرف والشعب من طرف آخر، وعليه فإن هذه الديناميكية لابد وأن تحدد بوضوح مسار التغيير الجديد والمدد الزمنية لاستكمال المسيرة، وذلك عن طريق حوار دائم وبناء.
وأعتقد جازما أن السعى نحو أى من هذه الأهداف الثلاثة، يتطلب أولا وقبل كل شىء، تحقيق الاستقرار الأمنى فى أسرع وقت، والذى ينبغى أن ينعم به أبناء الشعب المصرى، على أن يكون ذلك فى إطار مؤسسى لشرطة ما بعد الثورة، يباعد بين ما عرفه النظام السابق من آليات لتحقيق الأمن، ويعمل على احترام حقوق المواطن فى الوقت ذاته، فإن الإصلاحات السياسية الحقيقية ــ وليست تلك التى تكون مستمدة بشكل أو آخر من النظام السابق ــ ينبغى أن تكون سريعة، وأن تكون هادفة لتكوين المؤسسات الجديدة للدولة فى جميع القطاعات، وهو ما يتطلب بالضرورة أن يكون هناك تطبيق قاطع للقانون على كل المواطنين دون أدنى استثناء.
المأزق الاقتصادى.. والإنتاج
أما الإصلاحات الاقتصادية، والتى أراها هى حجر الزاوية للبناء والتقدم، فتلك هى التحدى الأصعب الذى يواجه مصر حاليا، كما سيواجهها فى المستقبل القريب، وذلك لأسباب عدة، أهمها أن السعى المصرى نحو بناء اقتصاد قوى يأتى بعد عقود من حكم السيد مبارك ودائرته المقربة، حيث تم استنزاف الكثير من الموارد المصرية. إلى جانب ذلك، فإن الثقة فى مناخ الاستثمار فى مصر ليست عالية أبدا، وحركة السياحة ليست فى أحسن أحوالها، كما أن دعم المصريين فى الخارج، الذين لهم الكثير من القدرة على تقديم الدعم المادى والمهنى لمصر ما بعد الثورة، قد يتأثر بدرجة كبيرة، ربما بسبب عدم الارتياح إزاء بعض ما جاء فى التعديلات الدستورية، بالإضافة إلى أن أصحاب الأعمال المصريين، سواء كانوا من أصحاب الأعمال الصغيرة أو الكبيرة، يعانون تحديات لا يستهان بها.
لكن مع كل تلك الصعوبات، فإن بناء اقتصاد مصرى قوى ليس بالأمر المستحيل. إن استعادة التركيز على القضايا الجوهرية، والابتعاد عن الانخراط فى الأمور التى ليس لها جدوى تذكر، واسترجاع التسامح والتصالح الوطنى، وشعور الثقة فى الوطن وبين أبنائه يمكن بالتأكيد أن يدفع بالشعب المصرى نحو نهضة اقتصادية جديدة.
ولذلك ليس أمامنا من اليوم غير العمل والعمل الجاد من أجل الإنتاج. فالوقت لم يعد يسمح بإطلاق بعض الشعارات والتصريحات والاكتفاء بذلك. إن تحقيق النمو الاقتصادى يتطلب أن يكون هناك استقرار فى معدلات النمو على المستوى المنظور، ليتم العمل على الأمد الطويل لرفعها بما يتناسب مع أهداف تحقيق التنمية والإنتاج المناسب لمصر، ورفع الإنتاج ينبغى أن يكون الشغل الشاغل لكل المجتمع المصرى، حيث لا يمكن لنا أن نقبل بأن يبقى الاقتصاد فى مصر ما بعد الثورة معتمدًا على عوائد قناة السويس والسياحة فقط.
الثروة البشرية
إن مصر ليس لها الكثير من الموارد الطبيعية، كما أن المساحة المزروعة من أرضها ليست بالمساحة الكبيرة، أقل من 10٪، ولكن مكمن الثروة المصرية الحقيقية هو أبناؤها. فمصر تتمتع بثروة بشرية هائلة إذا ما أحسن استغلالها من خلال العمل المنتج، ومن خلال مشاريع قومية يلتف حولها أبناء الشعب المصرى يمكن لها أن تحقق الكثير، خاصة إذا ما توازى ذلك مع مشروع نهضوى كبير لتحقيق طفرة فى مستوى التعليم والبحث العلمى، وبالتالى فى قدرات الثروة البشرية المصرية.
إن ما يطلق عليهم فى مصر الآن «شباب الفيس بوك»، يعلمون أن مصر كان لديها يوما مستوى من التقدم فى مجالات التعليم والبحث العلمى تفوق التى كانت لدى دولة مثل كوريا الجنوبية، والتى أصبحت الآن من أهم اقتصاديات العالم. كما أنهم يعلمون أنه خلال العقود الثلاثة، التى أمضاها السيد مبارك فى قصر الرئاسة تراجعت الأمور فى مصر بدرجة كبيرة، بينما تقدمت بلدان أخرى، وحققت طفرات. فاستطاعت الصين أن ترفع حياة الملايين من مواطنيها من حال الفقر، كما استطاعت فى الوقت نفسه، أن ترسل روادا إلى الفضاء الخارجى، وأن تبنى مدنا عملاقة (Megacities)، وأن تصنع قطارات فائقة السرعة، وترفع مستوى التعليم بين طلاب المدن الصينية إلى المستويات الدولية. وبالتالى، فإن هؤلاء الشباب فى مصر يتساءلون: لماذا لم تحقق مصر ذلك، ولماذا لا تتحرك هى الأخرى نحو تحقيق مثل هذه الطفرات فى التعليم والتنمية؟
وبالطبع، فإن تحقيق مثل هذا النمو هو الهدف الذى ينبغى أن تسعى إليه مصر، مع الأخذ فى الاعتبار أن ذلك السعى سيستغرق بعض الوقت قبل أن يصل إلى مبتغاه. ولأن الأمر سيستغرق شيئًا من الوقت، ويحتاج الكثير من العزيمة، فإن الأولوية الآن تحتاج لإشعال شمعة للأمل، لأن هذه الشمعة هى التى ستضئ الطريق نحو مستقبل أفضل.
الفرصة التاريخية.. المشروع القومى
إننى أنظر إلى مصر فأرى فرصة تاريخية لاستعادة هذا البلد لمكانة يستحقها بجدارة، كما أننى أرى الشعب المصرى القادر بالعزيمة والإيمان بحق بلاده فى التطور أن يحقق الهدف المبتغى من خلال عمل هو بالضرورة بسواعد المصريين أنفسهم.
وفى هذا الشأن، فإننى أقترح بناء مشروع مصر القومى للنهضة العلمية فى أسرع وقت، والذى عملت من أجله فى الـ12 عامًا الأخيرة مع النظام السابق وبدون جدوى لأسباب يعلمها الجميع ولا داعى هنا للعودة للماضى للحديث عنها. إن هذا المشروع النهضوى والغير القابل للربح، يرتكز بدوره على ثلاثية مهمة، وهى:
● (التعليم العصرى) وذلك لنشر المعرفة والعلوم الحديثة.
● (المراكز المتميزة) وذلك للنهوض بالبحث العلمى والمشاركة العالمية.
●(التكنولوجيا الإنتاجية) وذلك لبناء القاعدة الإنتاجية والمعتمدة على تكنولوجيا العصر.
هذا المشروع فى عصر العلم هو العمود الفقرى للتقدم وأيضا لبث فكر مجتمعى جديد.
وكما قلت سابقا، فإنه لا يمكن لهذا المشروع أن يرى النور بدون الإرادة الوطنية، وتحقيق الهيكل الأكاديمى والقانونى الخاص بالعمل فى مشروع كهذا، بحرية وشفافية، مع إيجاد التمويل اللازم من قبل الحكومة والشعب المصرى.
صندوق (اقرأ)
وفى أولى كلمات القرآن التى أوحيت للنبى محمد، تكمن الحكمة: «اقرأ». وإذا ما أردنا تطبيق هذه الحكمة على حال مصر الآن، فإن ما نسعى إليه بالتأكيد هو تحقيق طفرة فى اقتناء المعرفة وتطبيقها لصالح البلاد.
وفى مبادرة جديدة، اقترحت إنشاء صندوق للشراكة القومية والدولية، يمكن أن يسمى «صندوق اقرأ» ــ بين المؤسسات الخاصة والحكومية ــ لدعم المشروع، ولكن لابد أن نعلم جميعا أن مثل هذا المشروع لا يمكن تحقيقه بالاعتماد على غير المصريين، وإن كنت أثق أنه عندما يصبح نجاح هذا المشروع واضحًا، فإنه سوف يجتذب الشراكة العالمية الفعالة والنافعة.
وفى اختيار كلمة «اقرأ» عنوانا للصندوق الذى أقترحه، فإننى أيضًا أطرح معنى عالميا، حيث أردت لها أن تكون المرادف العربى للكلمة الإنجليزية «READ» والتى هى اختصار لـ «Renaissance in Education And Development».
وينبغى أن يكون عمل هذا الصندوق بعيدا عن كل أغراض السياسة، وأن يتم تحت إدارة مجلس أمناء من الشخصيات البارزة المصرية والعربية والدولية، على أن يكون الهدف الرئيسى أمام هذا الصندوق هو رفع المستوى التعليمى والفكرى بما يؤدى إلى بناء استراتيجية واعدة لتحقيق نمو اقتصادى واسع، وإعادة صياغة البنية التحتية فى مصر، وفتح الآفاق أمام نهضة صناعية وثقافية تعود بنا إلى نهضة محمد على، ولكن فى سياق القرن الواحد والعشرين. إن الأمية ستبقى دوما عائقا قاسيا أمام تحقيق التنمية أو إرساء الديمقراطية، لهذا فإننى أقترح أن نسعى أيضا للعمل على محو كامل للأمية، وبناء مدارس علمية للموهوبين، وبناء مراكز تطبيقية لأغراض البنية الأساسية.
الإرادة والدعم
وفى البداية، فإن إطلاق هذا المشروع يحتاج إلى مليار دولار، كما يجب أن يتم فى الوقت نفسه إنشاء وقف مالى بقيمة مليار دولار أخرى، لأغراض تطوير المشروع وتوسيعه بصورة متدرجة، وعلينا أن نعلم أن جامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا فى المملكة العربية السعودية لها وقف مالى يقرب من 20 مليار دولار. وسيحتاج الأمر بالتأكيد خلال سنوات متتالية لمزيد من الأموال التى يمكن أن يسهم بها عدد من الدول المعنية بدعم استعادة النهضة المصرية ليتم توفير هذه الأموال من خلال البنك الدولى أو البنك العربى أو صندوق الإنماء الإسلامى، بجانب التبرعات الأساسية من الشعب والحكومة المصرية. ولكن كما ذكرت سالفا لا يمكن لهذا المشروع أن يتم بدون الإرادة المصرية والدعم المصرى، ثم بعد ذلك يتم الاستعانة بمؤسسات ودول أخرى، أما العكس فى الرؤية ففى رأى لا يؤدى إلى النتيجة المطلوبة من مشروع بهذا الثقل والأهمية.
وإذا ما أخذنا فى الاعتبار أن قرابة نصف سكان مصر هم من الشباب دون الثلاثين، فإننا سنجد أن الأموال المطلوب توفيرها لإطلاق وعمل هذا الصندوق الذى سيكون من أبرز نتائج نشاطه رفع مستوى كفاءة الفرد المهنية والفكرية، وتمهيد الأرض لإرساء الديمقراطية الحقيقية والمعتمدة على تبادل الآراء، فإننا سنجد أن تلك الأموال تعد النذر القليل بالمقارنة بمئات المليارات من الدولارات التى إهدرت وسرقت من مصر، وبدون فائدة للوطن وأبنائه.
وينبغى هنا أن أشير إلى الأثر النفسى الكبير الذى يمكن أن يلعبه إنشاء مثل هذا المشروع القومى الآن. فمصر هى دولة فى حالة من السيولة، تتنازعها أقطاب مختلفة من مخلفات النظام السابق إلى تيارات تمارس السياسة باسم الدين وبسمات من التعصب وغيرها، وكل يسعى لأن تكون له الكلمة الأخيرة فى تقرير مصير هذا البلد. ومن خلال عملية إعادة بناء ناجحة لمؤسسات تعرضت للانهيار، فإن المشروع القومى مع صندوق «اقرأ» يمكن أن يسهم فى وضع مصر على بداية الاتجاه الصحيح فى الإنتاج من أجل الاقتصاد، والفكر من أجل التقدم. والفخر والاعتزاز من أجل بناء حضارة مستقبلية لمصر.
والجميع يعرف أن الأسر المصرية تعانى من نتائج تدهور التعليم الذى حل خلال العهد السابق. وأنا أثق أن كل أسرة مصرية، وبلا استثناء، تحلم اليوم بأمرين، أولهما: هو ضمان تعليم جيد لإبناءها. والثانى: هو الإسهام فى استعادة نهضة وعزة مصر.
التاريخ.. والأمل
يعلمنا التاريخ أن البلاد يمكن أن تستعيد تجارب النجاح، ومصر قادرة على ذلك. إن مصر قادرة على أن تستعيد مكانتها فى صنع الحضارة، وأن تكون مركز النهضة العلمية والفكرية والاقتصادية فى العالم العربى. ولكن هذا لن يتم بالجدل السياسى عن الماضى والأيدولوجيات أو بالانشقاق الوطنى بين المسلمين والمسيحيين أو بالصراع بين المذاهب أو بالطموح السياسى مع إغفال مصلحة الأمة. وهنا يأتى دور هيبة الدولة واحترام القانون، والتسامح والمصالحة الوطنية، كما يأتى ضرورة عدم استغلال بعض رجال الإعلام وأهل السياسة للأوضاع الحالية فى مصر.
مصر فى حاجة إلى نقلة نوعية، من حالة شرعية الثورة إلى حالة دولة المؤسسات، لبناء الدولة الحديثة، وهذا يتطلب المشاركة البناءة والحقيقية، ويجب التذكر أن شبابنا فى أعز المحن فى الميدان كان يردد كلمة «سلمية»، وبالتالى فهم يتوقعون أن يكون شعار كل المصريين فيما بعد الثورة هو التسامح والتعايش السلمى!
إن ثورات تغيير النظم، كما يذكرنا التاريخ، كثيرا ما يعقب مراحلها الأولى بعض الاضطرابات، وفى بعض الأحيان انقلابات، وبالتالى فإننا يجب أن نبادر بالتغيير الشامل والعمل الجاد دون تردد، لأن أى تأخير ستكون له عواقب سلبية ستتحمل مصر والمنطقة بأسرها نتائجه لعقود قادمة، إن عامل الوقت هو عامل حاسم بكل تأكيد.
ولكننى عندما أُسئَل عن ثورة 25 يناير فأقول، وكما ذكرت مرارًا فى السابق، إننى «متفائل بمستقبل مصر»، أقول هذا ليس من منطلق العواطف ولكن لمعرفتى الشخصية بطموحات شباب مصر والمستمدة من لقاءاتى معهم، وأيضًا بمعرفتى التاريخية لعبقرية مصر، فقد تجلت هذه العبقرية مرارًا، كان آخرها النصر القومى فى عام 1973 بعد هزيمة 67 الفاجعة، والآن بعد نصر 2011، لابد وأن تهزم مصر الماضى وتبنى المستقبل.
وفقنا الله جميعا لخدمة مصر.. مصر الأمل!
قبيل مغادرتى القاهرة بعد أيام من تنحى السيد حسنى مبارك عن حكم مصر، فى الحادى عشر من فبراير، التقيت إسراء، فتاة مصرية من قيادات الثورة، وسألتها عن الهدف الذى كان لدى الشباب عندما أطلقوا ثورتهم فى ميدان التحرير، ومختلف أرجاء ومحافظات مصر، فأجابتنى أن الهدف كان «تغيير النظام».
ولقد تمكن الشعب المصرى من خلال الثورة وفى 18 يوما، أن يُسقط رأس النظام، وينهى 30 عاما من حكم فردى وشمولى.
وبنظرة موضوعية، يجد المرء نفسه أمام عملية تحول ديمقراطى تشمل إنهاء آثار الحكم السابق وإظهار معالمه، خاصة الفساد الذى كان متفشيًا فى أرجاء وأعماق الوطن، والتحرك نحو حقبة جديدة من تاريخ مصر. وبالفعل، فإن التحولات التى شهدتها مصر خلال الشهور الثلاثة الماضية، تعد تحولات كبرى، خاصة إذا ما قارناها بالشهور الثلاثة ــ أى نفس المدة ــ التى سبقت بدء ثورة الخامس والعشرين من يناير.
الثورة النموذجية
ومن أهم ما يميز الثورة المصرية عن غيرها من الثورات العربية التى يتعرض أبناؤها لإراقة دمائهم من أقبلة الأنظمة فى ليبيا واليمن وغيرهما، أن هذه الثورة مثلت وحدة رائعة بين أبناء الشعب المصرى وبين الشعب وقواته المسلحة. فى الوقت نفسه، فإننا عندما نتابع تفاصيل الفساد الذى عاش به النظام السابق، والذى كشف عنه مع سقوط رأسه، لابد لنا وأن نشعر بأن مصر كانت محروسة بالفعل، كونها لم تتعرض لعملية إفلاس كاملة بالرغم من كل هذا الفساد. والرائع واللافت للنظر فعلا هى قدرة الشعب المصرى على التخلص من قيود خوف كبلته لعقود، فكسرها، وتجاوز سنوات من القهر والظلام تعرض لها.
ولهذا كله، فإن الثورة المصرية تمثل نموذجًا فريدًا لتحقيق التغيير فى منطقة الشرق الأوسط. ومن ينظر فى الشأن المصرى، سيدرك على الفور أنه، وبالرغم من اختلاف عقائد أبناء هذا الشعب، وهو الاختلاف الذى يمكن أن ينجم عنه فى بعض الأحيان بعض التوترات أو المشاحنات، فإن الشعب المصرى يبقى فى نهاية الأمر شعبا موحدا، غير قابل للانقسام على أى أساس قبلى أو الوقوع فى فتن طائفية بالمعنى الكامل للكلمة. فالشعب المصرى يجمعه تاريخ مشترك وميراث ثقافى عريق يبقيه دوما موحدا فى إطار الحضارة المصرية «أم الدنيا».
وفى هذا يختلف النموذج المصرى عن البلدان الأخرى التى بها من التمايز القبلى والثقافى ما يمكن أن يفتح الباب أمام سيناريوهات للفوضى، بل ربما الحروب الأهلية، وهو ما يعنى أن منطقة الشرق الأوسط بأسرها يمكن أن تقع فى براثن النزاعات والتعصب، وهو أيضا ما سيدفع بالمنطقة نحو الخلف بدلا من الأمام.
ولذلك، فمن الضرورى أن تنجح الثورة المصرية فى تتويج أهدافها لتكون نموذجا قابلا للاستلهام فى حالات أخرى. والثورة المصرية فى رأيى حالة مركزية ومهمة لأن مصر التى يبلغ الآن تعداد سكانها الـ 85 مليون نسمة هى أكبر الدول فى منطقة الشرق الأوسط، كما أنها مركز ثقل العالم العربى لدورها المحورى فى السياسة والثقافة والمعرفة، وأيضا للمكانة التاريخية للأزهر الشريف. إن القوة الفكرية الهائلة والكامنة فى الشعب المصرى ما زالت قادرة على إعادة مصر لهذا الدور الريادى حتى بعد التراجع الملموس فى العقود السابقة.
وعلى المستوى العالمى فإن نجاح التجربة المصرية هو أمر أساسى لضمان الاستقرار الذى من شأنه الحفاظ على أمن الإقليم وإرساء الديمقراطية وأيضا تدفقات النفط والغاز من منطقة الشرق الأوسط لضمان إمدادات الطاقة فى العالم أجمع. والغرب يجب أن يقدم الدعم لهذه الثورات الشعبية فى العالم العربى، والتى تهدف بالأساس لتحقيق الديمقراطية، ذلك الهدف الذى لم يتمكن من تحقيقه بالحرب على العراق فى 2003 رغم تكلفة بلغت تريليونات الدولارات.
الديمقراطية والفوضى
ومع كل ما حققته الثورة المصرية من إنجازات، ومع كل ما تميزت به، بل وكل ما كشفت عنه من تحضر للشعب المصرى فإن هناك أمورًا توالت بعد انتهاء الثورة لا تتفق حسبما أراها مع قواعد الديمقراطية المتعارف عليها ولا مع قواعد الوطنية المصرية للثورات السابقة. ومن ذلك التباين الكبير بين التألق الرائع للوحدة الوطنية التى عاشتها مصر أياما متتالية فى ثورتها التى تجسدت فى ميدان التحرير، حيث تداعت أى حواجز زائفة بين مسلمى الوطن وأقباطه، وأن نعود بعد أسابيع قليلة من انتهاء الثورة لنطالع أنباء مؤسفة ومؤلمة عن تشاحنات بين مسلمين وأقباط أو مسلمين بعضهم وبعض. ولا يمكن بمنطق الثورة السلمية والشريفة أن يفسر المرء ما حدث من قطع الطرق ووقف القطارات ويصل الحد لإحراق بيوت العبادة ورفع أعلام لدول أجنبية على أرض الكنانة.
من المفهوم أنه بعد أى ثورة توجد فئات ومجموعات لديها أهداف ومصالح تسعى لتحقيقها من خلال عمليات شحن عشوائى لمشاعر البعض، ولكن هؤلاء سيكونون فى النهاية، وعندما تقام الدولة الديمقراطية بكامل أركانها، الخاسرين، لأن الغلبة ستكون للشعب المصرى القادر دوما على أن يظهر معدنه الحقيقى فى ظل كل الصعوبات، ولأن الغالبية العظمى من الشعب المصرى لا تريد الانجراف وراء التشاحن والفوضى، وإنما تسعى لبناء دولة ديمقراطية حديثة.
بناء المستقبل
والسؤال إذن هو، ماذا ينبغى أن نفعل فى هذه المرحلة؟ ومن منطلق خبرتى فى الدعوة والحث على تحقيق التغيير عبر عقدين من الزمن، ولأننى كنت طرفا مفاوضا أثناء الثورة المصرية، سواء من خلال التخاطب مع شباب الثورة أو مع الحكومة المصرية فى حينه، فإننى أعلم يقينا أن أهم ما يسعى إليه الشباب فى مصر هو مستقبل جديد، مستقبل يقدم لهم حياة تختلف عن تلك التى عاشوها فى ظل النظام القديم ومستقبل لتحقيق الإنتاج والتقدم، الذى يليق بمكانة مصر على المستويين العربى والعالمى.
مستقبل مصر الواعد يتطلب بالضرورة استقرار الوحدة الوطنية ليسعى الشعب متكاتفا لتحقيق أهداف ثلاثة أراها حتمية لبناء الدولة الديمقراطية، اقتصاديا وسياسيا. وعليه فإن ثلاثية الرؤية تتمثل فى:
● (البعد السياسى) والذى أساسه يكون بناء الهيكل الحقيقى لنظام الحكم الديمقراطى الرشيد بما فى ذلك عدالة تطبيق القانون، ضبط أمن البلاد والانتقال إلى الشرعية الدستورية لحكم مستقر مبنى على مبادئ الثورة.
● (البعد الاقتصادى) والذى يتطلب فى المدى القريب التحرك السريع نحو عودة الإنتاج إلى ما كان عليه مع إصلاحات فى المؤسسات الاقتصادية، وفى نفس الوقت فلابد من وضع رؤية شاملة لرفع الإنتاج المصرى والدخل القومى، وإصلاح الوضع المؤسوى لمحدودى الدخل.
● (البعد القومى للنهضة) ولهذا البعد رؤية خاصة حيث فيه يلتحم الشعب مع الحكومة فى تبنى «مشاريع أحلام الوطن» والتى عن طريقهم يتم بناء جيل المستقبل ودفع مصر إلى مكانة العالم الأول، وتحديث العالم العربى ككل.
وهناك بعد رابع، بالمقارنة مع علوم الكون الطبيعية، هذا البعد يحدد ديناميكية العلاقة بين الجيش والحكومة من طرف والشعب من طرف آخر، وعليه فإن هذه الديناميكية لابد وأن تحدد بوضوح مسار التغيير الجديد والمدد الزمنية لاستكمال المسيرة، وذلك عن طريق حوار دائم وبناء.
وأعتقد جازما أن السعى نحو أى من هذه الأهداف الثلاثة، يتطلب أولا وقبل كل شىء، تحقيق الاستقرار الأمنى فى أسرع وقت، والذى ينبغى أن ينعم به أبناء الشعب المصرى، على أن يكون ذلك فى إطار مؤسسى لشرطة ما بعد الثورة، يباعد بين ما عرفه النظام السابق من آليات لتحقيق الأمن، ويعمل على احترام حقوق المواطن فى الوقت ذاته، فإن الإصلاحات السياسية الحقيقية ــ وليست تلك التى تكون مستمدة بشكل أو آخر من النظام السابق ــ ينبغى أن تكون سريعة، وأن تكون هادفة لتكوين المؤسسات الجديدة للدولة فى جميع القطاعات، وهو ما يتطلب بالضرورة أن يكون هناك تطبيق قاطع للقانون على كل المواطنين دون أدنى استثناء.
المأزق الاقتصادى.. والإنتاج
أما الإصلاحات الاقتصادية، والتى أراها هى حجر الزاوية للبناء والتقدم، فتلك هى التحدى الأصعب الذى يواجه مصر حاليا، كما سيواجهها فى المستقبل القريب، وذلك لأسباب عدة، أهمها أن السعى المصرى نحو بناء اقتصاد قوى يأتى بعد عقود من حكم السيد مبارك ودائرته المقربة، حيث تم استنزاف الكثير من الموارد المصرية. إلى جانب ذلك، فإن الثقة فى مناخ الاستثمار فى مصر ليست عالية أبدا، وحركة السياحة ليست فى أحسن أحوالها، كما أن دعم المصريين فى الخارج، الذين لهم الكثير من القدرة على تقديم الدعم المادى والمهنى لمصر ما بعد الثورة، قد يتأثر بدرجة كبيرة، ربما بسبب عدم الارتياح إزاء بعض ما جاء فى التعديلات الدستورية، بالإضافة إلى أن أصحاب الأعمال المصريين، سواء كانوا من أصحاب الأعمال الصغيرة أو الكبيرة، يعانون تحديات لا يستهان بها.
لكن مع كل تلك الصعوبات، فإن بناء اقتصاد مصرى قوى ليس بالأمر المستحيل. إن استعادة التركيز على القضايا الجوهرية، والابتعاد عن الانخراط فى الأمور التى ليس لها جدوى تذكر، واسترجاع التسامح والتصالح الوطنى، وشعور الثقة فى الوطن وبين أبنائه يمكن بالتأكيد أن يدفع بالشعب المصرى نحو نهضة اقتصادية جديدة.
ولذلك ليس أمامنا من اليوم غير العمل والعمل الجاد من أجل الإنتاج. فالوقت لم يعد يسمح بإطلاق بعض الشعارات والتصريحات والاكتفاء بذلك. إن تحقيق النمو الاقتصادى يتطلب أن يكون هناك استقرار فى معدلات النمو على المستوى المنظور، ليتم العمل على الأمد الطويل لرفعها بما يتناسب مع أهداف تحقيق التنمية والإنتاج المناسب لمصر، ورفع الإنتاج ينبغى أن يكون الشغل الشاغل لكل المجتمع المصرى، حيث لا يمكن لنا أن نقبل بأن يبقى الاقتصاد فى مصر ما بعد الثورة معتمدًا على عوائد قناة السويس والسياحة فقط.
الثروة البشرية
إن مصر ليس لها الكثير من الموارد الطبيعية، كما أن المساحة المزروعة من أرضها ليست بالمساحة الكبيرة، أقل من 10٪، ولكن مكمن الثروة المصرية الحقيقية هو أبناؤها. فمصر تتمتع بثروة بشرية هائلة إذا ما أحسن استغلالها من خلال العمل المنتج، ومن خلال مشاريع قومية يلتف حولها أبناء الشعب المصرى يمكن لها أن تحقق الكثير، خاصة إذا ما توازى ذلك مع مشروع نهضوى كبير لتحقيق طفرة فى مستوى التعليم والبحث العلمى، وبالتالى فى قدرات الثروة البشرية المصرية.
إن ما يطلق عليهم فى مصر الآن «شباب الفيس بوك»، يعلمون أن مصر كان لديها يوما مستوى من التقدم فى مجالات التعليم والبحث العلمى تفوق التى كانت لدى دولة مثل كوريا الجنوبية، والتى أصبحت الآن من أهم اقتصاديات العالم. كما أنهم يعلمون أنه خلال العقود الثلاثة، التى أمضاها السيد مبارك فى قصر الرئاسة تراجعت الأمور فى مصر بدرجة كبيرة، بينما تقدمت بلدان أخرى، وحققت طفرات. فاستطاعت الصين أن ترفع حياة الملايين من مواطنيها من حال الفقر، كما استطاعت فى الوقت نفسه، أن ترسل روادا إلى الفضاء الخارجى، وأن تبنى مدنا عملاقة (Megacities)، وأن تصنع قطارات فائقة السرعة، وترفع مستوى التعليم بين طلاب المدن الصينية إلى المستويات الدولية. وبالتالى، فإن هؤلاء الشباب فى مصر يتساءلون: لماذا لم تحقق مصر ذلك، ولماذا لا تتحرك هى الأخرى نحو تحقيق مثل هذه الطفرات فى التعليم والتنمية؟
وبالطبع، فإن تحقيق مثل هذا النمو هو الهدف الذى ينبغى أن تسعى إليه مصر، مع الأخذ فى الاعتبار أن ذلك السعى سيستغرق بعض الوقت قبل أن يصل إلى مبتغاه. ولأن الأمر سيستغرق شيئًا من الوقت، ويحتاج الكثير من العزيمة، فإن الأولوية الآن تحتاج لإشعال شمعة للأمل، لأن هذه الشمعة هى التى ستضئ الطريق نحو مستقبل أفضل.
الفرصة التاريخية.. المشروع القومى
إننى أنظر إلى مصر فأرى فرصة تاريخية لاستعادة هذا البلد لمكانة يستحقها بجدارة، كما أننى أرى الشعب المصرى القادر بالعزيمة والإيمان بحق بلاده فى التطور أن يحقق الهدف المبتغى من خلال عمل هو بالضرورة بسواعد المصريين أنفسهم.
وفى هذا الشأن، فإننى أقترح بناء مشروع مصر القومى للنهضة العلمية فى أسرع وقت، والذى عملت من أجله فى الـ12 عامًا الأخيرة مع النظام السابق وبدون جدوى لأسباب يعلمها الجميع ولا داعى هنا للعودة للماضى للحديث عنها. إن هذا المشروع النهضوى والغير القابل للربح، يرتكز بدوره على ثلاثية مهمة، وهى:
● (التعليم العصرى) وذلك لنشر المعرفة والعلوم الحديثة.
● (المراكز المتميزة) وذلك للنهوض بالبحث العلمى والمشاركة العالمية.
●(التكنولوجيا الإنتاجية) وذلك لبناء القاعدة الإنتاجية والمعتمدة على تكنولوجيا العصر.
هذا المشروع فى عصر العلم هو العمود الفقرى للتقدم وأيضا لبث فكر مجتمعى جديد.
وكما قلت سابقا، فإنه لا يمكن لهذا المشروع أن يرى النور بدون الإرادة الوطنية، وتحقيق الهيكل الأكاديمى والقانونى الخاص بالعمل فى مشروع كهذا، بحرية وشفافية، مع إيجاد التمويل اللازم من قبل الحكومة والشعب المصرى.
صندوق (اقرأ)
وفى أولى كلمات القرآن التى أوحيت للنبى محمد، تكمن الحكمة: «اقرأ». وإذا ما أردنا تطبيق هذه الحكمة على حال مصر الآن، فإن ما نسعى إليه بالتأكيد هو تحقيق طفرة فى اقتناء المعرفة وتطبيقها لصالح البلاد.
وفى مبادرة جديدة، اقترحت إنشاء صندوق للشراكة القومية والدولية، يمكن أن يسمى «صندوق اقرأ» ــ بين المؤسسات الخاصة والحكومية ــ لدعم المشروع، ولكن لابد أن نعلم جميعا أن مثل هذا المشروع لا يمكن تحقيقه بالاعتماد على غير المصريين، وإن كنت أثق أنه عندما يصبح نجاح هذا المشروع واضحًا، فإنه سوف يجتذب الشراكة العالمية الفعالة والنافعة.
وفى اختيار كلمة «اقرأ» عنوانا للصندوق الذى أقترحه، فإننى أيضًا أطرح معنى عالميا، حيث أردت لها أن تكون المرادف العربى للكلمة الإنجليزية «READ» والتى هى اختصار لـ «Renaissance in Education And Development».
وينبغى أن يكون عمل هذا الصندوق بعيدا عن كل أغراض السياسة، وأن يتم تحت إدارة مجلس أمناء من الشخصيات البارزة المصرية والعربية والدولية، على أن يكون الهدف الرئيسى أمام هذا الصندوق هو رفع المستوى التعليمى والفكرى بما يؤدى إلى بناء استراتيجية واعدة لتحقيق نمو اقتصادى واسع، وإعادة صياغة البنية التحتية فى مصر، وفتح الآفاق أمام نهضة صناعية وثقافية تعود بنا إلى نهضة محمد على، ولكن فى سياق القرن الواحد والعشرين. إن الأمية ستبقى دوما عائقا قاسيا أمام تحقيق التنمية أو إرساء الديمقراطية، لهذا فإننى أقترح أن نسعى أيضا للعمل على محو كامل للأمية، وبناء مدارس علمية للموهوبين، وبناء مراكز تطبيقية لأغراض البنية الأساسية.
الإرادة والدعم
وفى البداية، فإن إطلاق هذا المشروع يحتاج إلى مليار دولار، كما يجب أن يتم فى الوقت نفسه إنشاء وقف مالى بقيمة مليار دولار أخرى، لأغراض تطوير المشروع وتوسيعه بصورة متدرجة، وعلينا أن نعلم أن جامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا فى المملكة العربية السعودية لها وقف مالى يقرب من 20 مليار دولار. وسيحتاج الأمر بالتأكيد خلال سنوات متتالية لمزيد من الأموال التى يمكن أن يسهم بها عدد من الدول المعنية بدعم استعادة النهضة المصرية ليتم توفير هذه الأموال من خلال البنك الدولى أو البنك العربى أو صندوق الإنماء الإسلامى، بجانب التبرعات الأساسية من الشعب والحكومة المصرية. ولكن كما ذكرت سالفا لا يمكن لهذا المشروع أن يتم بدون الإرادة المصرية والدعم المصرى، ثم بعد ذلك يتم الاستعانة بمؤسسات ودول أخرى، أما العكس فى الرؤية ففى رأى لا يؤدى إلى النتيجة المطلوبة من مشروع بهذا الثقل والأهمية.
وإذا ما أخذنا فى الاعتبار أن قرابة نصف سكان مصر هم من الشباب دون الثلاثين، فإننا سنجد أن الأموال المطلوب توفيرها لإطلاق وعمل هذا الصندوق الذى سيكون من أبرز نتائج نشاطه رفع مستوى كفاءة الفرد المهنية والفكرية، وتمهيد الأرض لإرساء الديمقراطية الحقيقية والمعتمدة على تبادل الآراء، فإننا سنجد أن تلك الأموال تعد النذر القليل بالمقارنة بمئات المليارات من الدولارات التى إهدرت وسرقت من مصر، وبدون فائدة للوطن وأبنائه.
وينبغى هنا أن أشير إلى الأثر النفسى الكبير الذى يمكن أن يلعبه إنشاء مثل هذا المشروع القومى الآن. فمصر هى دولة فى حالة من السيولة، تتنازعها أقطاب مختلفة من مخلفات النظام السابق إلى تيارات تمارس السياسة باسم الدين وبسمات من التعصب وغيرها، وكل يسعى لأن تكون له الكلمة الأخيرة فى تقرير مصير هذا البلد. ومن خلال عملية إعادة بناء ناجحة لمؤسسات تعرضت للانهيار، فإن المشروع القومى مع صندوق «اقرأ» يمكن أن يسهم فى وضع مصر على بداية الاتجاه الصحيح فى الإنتاج من أجل الاقتصاد، والفكر من أجل التقدم. والفخر والاعتزاز من أجل بناء حضارة مستقبلية لمصر.
والجميع يعرف أن الأسر المصرية تعانى من نتائج تدهور التعليم الذى حل خلال العهد السابق. وأنا أثق أن كل أسرة مصرية، وبلا استثناء، تحلم اليوم بأمرين، أولهما: هو ضمان تعليم جيد لإبناءها. والثانى: هو الإسهام فى استعادة نهضة وعزة مصر.
التاريخ.. والأمل
يعلمنا التاريخ أن البلاد يمكن أن تستعيد تجارب النجاح، ومصر قادرة على ذلك. إن مصر قادرة على أن تستعيد مكانتها فى صنع الحضارة، وأن تكون مركز النهضة العلمية والفكرية والاقتصادية فى العالم العربى. ولكن هذا لن يتم بالجدل السياسى عن الماضى والأيدولوجيات أو بالانشقاق الوطنى بين المسلمين والمسيحيين أو بالصراع بين المذاهب أو بالطموح السياسى مع إغفال مصلحة الأمة. وهنا يأتى دور هيبة الدولة واحترام القانون، والتسامح والمصالحة الوطنية، كما يأتى ضرورة عدم استغلال بعض رجال الإعلام وأهل السياسة للأوضاع الحالية فى مصر.
مصر فى حاجة إلى نقلة نوعية، من حالة شرعية الثورة إلى حالة دولة المؤسسات، لبناء الدولة الحديثة، وهذا يتطلب المشاركة البناءة والحقيقية، ويجب التذكر أن شبابنا فى أعز المحن فى الميدان كان يردد كلمة «سلمية»، وبالتالى فهم يتوقعون أن يكون شعار كل المصريين فيما بعد الثورة هو التسامح والتعايش السلمى!
إن ثورات تغيير النظم، كما يذكرنا التاريخ، كثيرا ما يعقب مراحلها الأولى بعض الاضطرابات، وفى بعض الأحيان انقلابات، وبالتالى فإننا يجب أن نبادر بالتغيير الشامل والعمل الجاد دون تردد، لأن أى تأخير ستكون له عواقب سلبية ستتحمل مصر والمنطقة بأسرها نتائجه لعقود قادمة، إن عامل الوقت هو عامل حاسم بكل تأكيد.
ولكننى عندما أُسئَل عن ثورة 25 يناير فأقول، وكما ذكرت مرارًا فى السابق، إننى «متفائل بمستقبل مصر»، أقول هذا ليس من منطلق العواطف ولكن لمعرفتى الشخصية بطموحات شباب مصر والمستمدة من لقاءاتى معهم، وأيضًا بمعرفتى التاريخية لعبقرية مصر، فقد تجلت هذه العبقرية مرارًا، كان آخرها النصر القومى فى عام 1973 بعد هزيمة 67 الفاجعة، والآن بعد نصر 2011، لابد وأن تهزم مصر الماضى وتبنى المستقبل.
وفقنا الله جميعا لخدمة مصر.. مصر الأمل!