أ.د/ عبد الرحمن البر
جاء في البروتوكول الأول من بروتوكولات حكماء صهيون: «إن السياسة لا تتفق مع الأخلاق في شيء، والحاكم المقيد بالأخلاق ليس بسياسي بارع، وهو لذلك غير راسخ على عرشه».
هذه العبارة هي خلاصة ما كتبه مكيافيللي في كتابه (الأمير) الذى اجتهد أن يعطي فيه الشرعية للوسائل الخسيسة التى يستخدمها الحكام ورجال السياسة من كذب وغش وخديعة وقتل وسفك دماء، وجعل القاعدة الشهيرة «الغاية تبرر الوسيلة» عنوانا للعمل السياسي. وقد عملت كل الهيئات والتجمعات والأحزاب الرافضة للدين ولتنظيم الحياة على أساس من أخلاقه وقيمه السامية على غرس هذا المفهوم اللاأخلاقي للسياسة في نفوس الناس، ولقي ذلك قبولا ورواجا في أوربا بعد أن ذاقت الأمرين من تحالف رجال الكنيسة المنحرفين مع أباطرة السلطة الزمنية المستبدين، وقامت الثورة الأوربية تدعو إلى شنق آخر ملك بأمعاء آخر قسيس، ثم حشرت أوربا الدين في زاوية شخصية ضيقة، معتبرة أن قيمه ومبادئه هي مجرد وصايا أخلاقية نبيلة تصلح للرهبان في الأديرة وينبغي تقديسها عن معترك الحياة؛ حتى لا تتلوث بالغش والدنس الذي تصطبغ به مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع الإنساني، وشاعت مقولة «أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، وحصرت ما لله في داخل النفس ودور العبادة، ومنحت قيصر الأرض وما عليها.
وفي ظل الانبهار والانهزام الحضاري أمام التقدم المادي الغربي نقل بعض المثقفين العرب هذه المفاهيم إلى بلادنا منزوعة من سياقها الجغرافي والتاريخي ومنطلقها الفلسفي، فرأينا من يقول: إن الدين شئ سام نبيل، ولكن محله القلب، ولا ينبغى خلطه بالسياسة، لأن السياسة دنسة، ولا يجوز تلويث الدين بدنس السياسة.
ولما ضاق صدر الأستاذ الإمام محمد عبده من ألاعيب بعض السياسيين ومكرهم قال مقالته الشهيرة: «لعن الله ساس ويسوس وسياسة، وما دخلت السياسة في شيء إلا أفسدته» وتلقفها أصحاب الهوى ليجعلوها دليلا على ضرورة ابتعاد علماء الدين وإبعاد الدين نفسه عن السياسة.
ولم يزل هذا النظر الذي يستوحي أفكاره ورؤاه من التجربة الغربية أساسا يسعى لتقليص دور الدين في الواقع والحياة، حتى ليتساءل بعضهم مستنكرا: ما للدين والسياسة؟ وما للدين والاقتصاد؟ وما للدين وقضايا المجتمع؟ وتعالت الأصوات بالدعوة إلى كف من أسموهم (رجال الدين) عن التدخل فى السياسة والاقتصاد والاجتماع، والاكتفاء بما أسموه (المهمة السامية) للدين المنحصرة فى تهذيب المشاعر وتنبيه الضمائر وترقيق الوجدان، ثم ترتيب أمور الموتى من الغسل والتكفين والدفن وتلاوة القرآن في السرادقات على أرواح الموتى، وتسامح بعضهم فتصدَّق علينا بأنه لا بأس بأن تتوافق قوانين الأحوال الشخصية مع الدين، فيما تشدد آخرون فقرروا أن الحياة الشخصية -ومنها العلاقة بين الذكر والأنثى- ينبغي أن تكون حرة لا تخضع لضوابط الدين والأخلاق!.
وفي مقابل هذا النظر المفتون بالتجربة الغربية كان من الطبيعي أن تنهض الحركة الإسلامية بتقديم رؤيتها المؤسسة على رعاية المبادئ قبل المصالح ، والمستهدفة لتقديم النموذج الأخلاقي السياسي، والمستمدة من الفهم الوسطي الصحيح للإسلام ولدور الدين في المجتمع، باعتبار الأمر في بلادنا الإسلامية مختلفا تماما عن الحالة الأوربية من جهات متعددة:
1 - فليس عندنا في الإسلام رهبنة ولا سلطة روحية ولا (رجال دين) يحلون ويحرمون برأيهم أو يتكلمون باسم الله أو بالحق الإلهي، بل عندنا علماء بالدين غير معصومين، ينحصر دورهم في فهم النصوص وتوضيح الأحكام وفق قواعد منضبطة لا حسب الهوى والرغبة، وليس لهم أي ميزة سوى أنهم علماء متخصصون.
2 - وأمتنا لم تعان على الإطلاق من تواطؤ علماء الدين مع السلطة الزمنية المستبدة من خلال تحريف نصوص الشريعة، بل أكثر ما عانت منه الأمة هو تعرض الحكومات المستبدة للدعاة والعلماء بالإيذاء والتعذيب والتضييق، ومتى وُجد بعض المشتغلين بالعلم الشرعي المتملقين للسلطة المتأولين لتصرفاتها الخاطئة برز في مواجهتهم العلماء المخلصون الصادقون الذين يقولون الحق ولا يخافون في الله لومة لائم.
3 - والتدين الصحيح المبني على تنمية القيم الروحية والأخلاقية أساسا متمكن من نفوس أمتنا ومتجذر في أعماقها، ومهما حاول البعض حرفها عن احترام تعاليم الدين أو تحريضها على التمرد على قيمه وأحكامه فإنه يفشل فشلا ذريعا، ولا يمنعها البطش الشديد من الاحتفاظ بهذا التدين في أعماق قلوبها ليظهر في أقرب فرصة تتاح لظهوره، ولذلك فالأمة تستجيب بحب وقبول وسلاسة لمن يخاطب فطرتها، وفي ذات الوقت تنفر تلقائيا ممن يصادم عقيدتها أو يريد أن يميل بها عن شريعتها، وترفض بوضوح وحزم من يسعى لهدم أصولها أو يتحدى مصدري دينها ورسالتها (القرآن والسنة).
4 - وإن نصوص الشريعة الواضحة القاطعة ناطقة بأنه دين شامل {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. فالإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا، فهو دولة ووطن، أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة، سواء بسواء. ولهذا فالأمة لا تقبل مطلقا فكرة الفصل بين الدين وبين سائر شؤون الحياة، وترى ذلك أخذا لبعض الكتاب وتركا لبعضه، وقد كثر التحذير من ذلك في القرآن والسنة الصحيحة.
5 - وإن نصوص الشريعة قاطعة باحترام العلم والعلماء وتقدير البحث والباحثين في كل المجالات النافعة للإنسان الذي جعل الله رسالته استعمار الأرض بالحق {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} ومهما اكتشف الناس من حقائق علمية ازدادوا بالعلم قربا إلى الله {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}. بل يجعل الإسلام مداد العلماء أرجح من دماء الشهداء.
ولهذا فمشروع الإسلام ليس مجرد مشروع روحي، بل هو مشروع حضاري بامتياز، حتى إنه ليجعل الرجوع إلى أهل الاختصاص أيا كان دينهم في كل مجال واجبا شرعيا {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، ويحذر من دخول الإنسان فيما لا علم له به {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}.
6 - وفرقت الشريعة بين الأحكام القطعية التي لا تحتمل تأويلا ولا تغييرا، وغالب ذلك في العقائد والعبادات والأخلاق وأحكام الأسرة والعلاقات الإنسانية والروابط الاجتماعية والحدود الشرعية، وبين الأحكام المرتبطة بعلل أو بمصالح العباد، فتدور مع العلل والمصالح، وغالب هذا النوع في المعاملات الاقتصادية والأحكام السياسية والعلاقات الدولية، وفي هذا الإطار كانت هناك ضوابط عامة وقواعد كلية ومرونة كبيرة في التعامل مع التفاصيل الجزئية، بما يحقق مصالح العباد.
وإضافة لذلك سكتت الشريعة عن مسائل كثيرة وبخاصة في شؤون الحياة اليومية العملية المتجددة المتطورة كأمور الطب والصناعة والزراعة والعمارة والإدارة ونحوها من مجالات الإبداع الإنساني والتنافس الحضاري التي تشمل القسم الأكبر من حياة الناس، وقد تركت الشريعة للناس أن ينظموا هذه الشؤون حسب ما يحقق مصالحهم ويسهل حياتهم «أنتم أعلم بشؤون دنياكم»، بل اعتبرت الإبداع في هذه المجالات قربة إلى الله متى اقترن بقصد صالح من نفع الناس وإفادة البشرية ودفع الشر والأذى عن الخلق ونحو ذلك من البواعث النبيلة.
7 - وإن التجربة التاريخية للتطبيق الصحيح لهذا الدين الشامل في الواقع أثبتت نجاحا منقطع النظير وأنتجت حضارة راشدة عاقلة في كل المجالات، وأثبتت القراءة التاريخية المتجردة أن حالات الصعود والهبوط في الأمة كانت مرتبطة بشكل واضح بمدى تمسكها أو إهمالها لدينها وشريعة ربها عز وجل، وأن الأخطاء التي حدثت كانت من انحراف الناس أو من سوء التطبيق لا من خلل في ذات المنهج وقواعده الكلية.
المصدر/ نافذة مصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق