17/03/2012 00:00 ص
أنور مالك :
ظلّ حي بابا عمرو بحمص يصنع الاستثناء الأسطوري في عمر الثورة السورية الخالدة، وذلك بصموده في وجه غطرسة الجيش النظامي وبتحديه لشبّيحة وفصائل الثنائي بشار ماهر الأسد الذين ارتكبوا -ولا يزالون- مجازر وحشية لا تحصى ولا تعدّ في حقّ المدنيين والعزّل والأبرياء.
ظل هذا الحيّ واقفا يصدّر للعالم مشاهدا من الدمار والخراب، وجرائم حرب يندى لها جبين الإنسانية لو بقي في هذا العالم أدنى معنى لهذه الإنسانية، فالجثث تحرق وتسحل والأطفال يقتلون ويعذّبون وهم في مهدهم، والنساء يتعرضن للاغتصاب الجماعي، والمباني تقصف بأسلحة ثقيلة، وتمّ استعمال حتى غازات سامّة ظهرت في ملامح الضحايا المشوّهة بطرق فظيعة.
لقد كنت متلهفا جدا لأن أرى حيّ بابا عمرو خصوصا وكل الأحياء الثائرة عموما، وكم تمنيت أن أزوره وأقف على الحقيقة التي -بلا شك- تظل جوانب منها كثيرة مغيبة عن هذا العصر الفضائي بامتياز، بالرغم من الجهود التي تبذلها بعض القنوات ووسائل الإعلام. وشاءت المقادير أن أكون ضمن البعثة العربية لمراقبة الوضع السوري من خلال بروتوكول موقع بين الحكومة السورية والجامعة العربية، حيث جردت نفسي من كل الأحكام والمعلومات المسبقة، وأقسمت أغلظ الإيمان بيني وبين نفسي على قول الحقيقة ولو كانت في صالح الشيطان!!
لما وصلنا إلى دمشق مساء يوم الاثنين 25 ديسمبر/كانون الأول المنصرم على متن طائرة خاصة، اجتمعنا ليلا في جلسة مغلقة بالفندق مع الرئيس الجنرال محمد مصطفى الدابي وأركان غرفة عمليات البعثة بدمشق، وبعد التعارف والحديث عن المهمة وحيثياتها وتشابكاتها المختلفة، تقرر سفرنا صباح اليوم الموالي مباشرة، الثلاثاء 27 ديسمبر/كانون الأول 2011، إلى مدينة حمص التي تلتهب وعلى رأس ذلك حي بابا عمرو طبعا، فضلا عن الضغوط التي مارستها المعارضة لأجل الوقوف على المشهد هناك، وهو الذي أقرّ به الجنرال الدابي والسفير سيف اليزل وغيرهما.
تطوعت لأن أكون من بين العشرة المبشرين بالحج نحو حمص، والذين سينالون شرف دخول مدينة تصنع الحدث بالعالم، في أول عمل للبعثة العربية تحت إطار أول مهمة مراقبة في تاريخ الجامعة العربية. من دون الخوض في تفاصيل الرحلة مع الجنرال السوداني وما دار بيننا من حديث في الطريق حيث كنت معه في سيارة واحدة، عبر مسافة تصل لحوالي 160 كلم. ومن دون خوض أيضا في تفاصيل الاجتماع الذي عقدناه مع محافظ حمص اللواء عبد العال غسان الذي أعطانا صورة سوداوية معقدة عن الوضع من خلال ما سماها "جماعات إرهابية" تسيطر على حي بابا عمرو، بل أحيانا يلتفت نحوي بعدما تعرف علينا جميعا، وهو يضرب أمثلة بما عرفته الجزائر من أحداث خلال العشرية الدموية.
غير أنه من الضروري التأكيد على أن قرار الفريق أول مصطفى الدابي بالدخول لحي بابا عمرو أربك المحافظ، والذي راح يؤكد لنا أننا نتحمل المسؤولية التامة والكاملة فيما يتعلق بأمننا وحمايتنا، بل حاول تخويفنا من تصفيتنا من قبل "الجماعات الإرهابية" المرابطة هناك والتي تحتجز المدنيين والسكان على حدّ ادعاءاته. لكن الدابي أصرّ على الذهاب ومن دون حماية من قبل الجيش والمخابرات الذين لا يمكنهم التجرؤ على الدخول لحي بابا عمرو الثائر. أكملنا طريقنا من دون حماية لأن الحراسة المرافقة لنا توقفت في شارع البرازيل الذي أدركنا لاحقا مدى سيطرة القناصة التابعين للنظام على البيوت فيه واتخاذ العوائل كدروع بشرية ومنعهم من الخروج أو الدخول.
أول ما وقفنا على مدخل الشارع الرئيسي لبابا عمرو هالني وصدمني مشهد الدمار الذي حلّ به، وجدناه خاليا لأن السكان غادروا خراب بيوتهم منذ أيام، وظهر الحي عبارة عن مقبرة لا حياة فيها أبدا، فالدخان يتصاعد، والجدران مهدمة، وآثار الرصاص في كل مكان، حتى بقع الدماء لم تجف بل بينها الحديث جدا وقع قبل دقائق من وصولنا.
بعد لحظات من بلوغنا الحيّ، انسلّ السكان إلينا جماعات تترى من أجداثهم يستنجدون بنا ويشتكون وضعهم البائس، كان حالهم سيئا وظروفهم لا يمكن تصورها ولو في الأفلام الخيالية. لم نلبث إلا حوالي ساعة واحدة حتى صار عددهم بالآلاف يهتفون بسقوط النظام ومحاكمة بشار الأسد وإعدامه، شعار يرفعه الشيخ الطاعن في السنّ، ويردده الصبي الذي لا يقدر على الكلام، وتزغرد له النساء، ويهتف له الشبان، ويلحّ عليه مسلحون لم يخفوا أنفسهم، بل تقدموا إلينا وفي أيديهم أسلحتهم الخفيفة وبطاقات الهوية العسكرية.
فقلت حينها للدابي لو كان هؤلاء من "الجماعات الإرهابية" ما خرجوا لنا من اللحظات الأولى وما عرّفونا على أنفسهم، بل ربما يراوغ الناشطون على تكذيب أطروحة وجود المسلحين في حي بابا عمرو. أذكر أن الجميع هتفوا للجيش الحر ورددوا كل الشعارات الطيبة تجاهه، وفي ظل حمى الحديث معنا ونحن قد تهنا في طوفان عارم، لا أسمع غير كلمة واحدة: "لولا الجيش الحر لذبحونا"، "الله محيي الجيش الحر".
لقد وقفنا على قتلى ومعذّبين وجرحى ومسلوخين ومسحولين وممزقين لأشلاء ومقطعي الأوصال، وتمّ قنص المدنيين أمامنا بينهم الفتى أحمد محمد الراعي الذي لن أنساه ما حييت، ووجدنا آثار الرصاص وبقاياه في كل مكان، والمتفجرات والمقنبلات لم تتوقف عن استهداف الحي أمامنا، بل لم نتمكن من المرور في بعض الشوارع، لأن القناصة المتمركزين في أسطح العمارات لم يترددوا لحظة في استهداف المدنيين الذين يتجرؤون على قطع ذلك الطريق المحرّم والمؤدي نحو حاجز كفرعاية، الذي بدوره يقطع أوصال الأحياء، ويمنع الناس من التنقل ويفرض عليهم العيش تحت ركام بيوت مهدّمة ومهددة بالقصف القادم من جهات خارج الحي يسيطر عليها الجيش بدباباته وأسلحته الثقيلة.
على مدار أيام قضيتها مترددا على حي بابا عمرو على غرار أحياء أخرى، أدركت شيئا واحدا يجمع عليه الجميع وهو أنه لا خيار ثالث لأهله بين الموت أو النصر، فلم أسمع من أحد ولو كلاما عابرا -على سبيل الملل أو اليأس أو حتى المداعبة إن كان لها مجال- عن أنه يمكن لحي بابا عمرو أن يتوقف عن الثورة والمطالبة بمحاكمة بشار الأسد وأركان نظامه، كان الجميع على نغمة واحدة لا يختلف فيها الصبي عن الشيخ البالغ من الكبر عتيا، أو طفلة عن عجوز مفجوعة بتشييع أحفادها.
تحدثت مرات ومرات مع العماد آصف شوكت -وهو صهر الرئيس بشار الأسد الذي ظلّ مقيما بيننا في فندق السفير بحمص، وبرفقته وزير الداخلية اللواء محمد الشعار- وكان دوما يحرص على تأكيد أن سوريا ضحية "الإرهاب" العابر للقارات والمؤامرات الكونية، وما تمرّ به هو نفسه ما عاشته الجزائر من قبل.
بعدما قمنا بإجلاء حاجز عسكري كان محاصرا في المؤسسة الغذائية بحي بابا عمرو، وفي ظروف سيئة للغاية حيث ظلّ محاصرا من قبل الجيش الحرّ، وبينه جرحى وقتلى أخبرني أحدهم إلى جانب شواهد أخرى بأنه تم إعدامهم لأنهم حاولوا الهروب والانشقاق، سألت آصف شوكت عن أسباب عجزهم عن تحرير أكثر من ستين عسكريا وبآليات معطوبة، أجاب بعنجهية الطغاة: "بإمكاننا نسف ومسح حي بابا عمرو في 15 دقيقة، ولكن خوفنا من شيء واحد فقط"، كنت أعتقد أن الأمر يتعلق بالمدنيين من أطفال ونساء وشيوخ وعجزة ومرضى وجرحى، غير أنه فاجأني بقوله: "لديهم أجهزة متطورة تبث مباشرة مع قناتيْ الجزيرة والعربية"!
تعجبت من هذا الردّ السخيف الذي لا يمكن إدراجه إلا في خانة واحدة تتعلق أساسا باستعصاء وصمود حي بابا عمرو، وإصرار النظام على دمويته حتى آخر رمق للأهالي، فقد حاولوا بالقصف والاختطاف والعمليات العسكرية القذرة، وحاولوا باستعمال الوسائل الاستخباراتية لأجل بثّ الفتنة بين السكان، واستعملوا رجال الدين وأعيان بعض العشائر والجمعيات المدنية...، غير أنهم فشلوا في كسر إرادة بابا عمرو في تحدي النظام والثورة عليه بوجوه عارية وصدور تواجه القنص ورصاص متفجّر محرم دوليا.
لقد استغلوا البعثة العربية لأيام عبر تجنيد عناصر استخباراتية وخاصة العراقية منها، كانت تحدد الأماكن الحساسة التي يتمركز فيها عناصر الجيش الحر والنشطاء البارزين على غرار خالد أبو صلاح وصحبه، حيث تأكدت لاحقا أن النقاط ذات الأهمية التي وقفنا فيها ومعنا المشكوك في أمرهم، من بينها مثلا البيت الذي التقينا فيه بضباط الجيش الحر وبعض المشافي الميدانية ونقاط التفتيش التابعة للمعارضة، قد تمّ قصفها في أول العمليات العسكرية التي استهدفت بابا عمرو في الآونة الأخيرة، مما يعني أنها من بين الأهداف الإستراتيجية المحدّدة مسبقا.
وأذكر أن البعثة العراقية مكونة من ضباط استخبارات ينتمون للطائفة الشيعية فقط، وكانت بحوزتهم هواتف نقالة متطورة ولم يقوموا بتغيير شرائحهم الأصلية، وظلّوا على اتصال دائم مع جهات نجهلها، من خلال هواتفهم التي جلبوها معهم فيها خاصية تحديد المواقع «GPS» طبعا، إلى جانب هواتف أخرى بها شرائح سورية لإبعاد الشبهات عنهم يتمّ استعمالها في التواصل الداخلي في إطار عمل المراقبين.
الحقائق كثيرة ومتشعّبة ولا يمكن حصرها في مقال عابر، غير أن الشيء الذي يجب التأكيد عليه أن حي بابا عمرو كان نقطة سوداء في أجندة الأجهزة الاستخباراتية السورية، ولذلك يعتبر دخول الجيش النظامي إليه مسألة تحدّ، ولو على حساب المدنيين والأطفال والنساء والعجزة. غير أن الدخول إليه واحتلاله بعد تدمير ما تبقى من ركامه ورماده، وإبادة المدنيين وإعدامهم والسير على جثثهم، لا يمكن أن يعتبر انتصارا للنظام السوري، بل هو هزيمة نكراء لا يمكن وصفها، لأن سكان الحيّ صمموا على الانتصار أو الشهادة، ولم ينجح أحد في ثنيهم عن إرادتهم الحية التي أذهلتني، بالرغم من أن الكثيرين منهم أميون وبسطاء وفقراء، ولا تجربة لهم في عالم السياسة والصراعات القائمة.
فضلا عن أن لجوء نظام حاكم يتبجح بشرعية موهومة إلى هذا الحلّ الأمني الذي يخالف كل الأعراف البشرية والدولية، هو في حدّ ذاته دليل قاطع على أنه بلغ مرحلة اليأس، لذلك يغامر بأساليب انتحارية وانهزامية تغرق الآخرين معه.
واهم من يزعم أن مجرد دخول قوات آصف شوكت -الذي كان يدير العمليات من فندق السفير بحمص- إلى حيّ صامد تحدى القذائف والصواريخ والمقنبلات والقناصة والغازات السامة أشهرا وليس أسابيع كما يخيل للبعض، هو انتصار ومنعطف سلبي في عمر الثورة السورية. بل الحقيقة أن إبادة بابا عمرو أنجبت مئات الأحياء الأخرى الثائرة. ولما ظنّ النظام أنه بمحو حيّ شعبي من الخريطة سيؤدي إلى إخماد الثورة، ساء مصيره ووجد نفسه في وجه أعاصير قوية بأحياء أخرى توزعت عبر التراب السوري كله.
بالرغم من أنهم ذبحوه وقتلوه ونسفوه وسلخوا جلده، ولم يبق منه غير أطلال من أطلال وقفت عليها رأي العين، وبالرغم من أن العالم صمت بخزي لا يمكن تخيله، ويوميا أتلقى خبر موت أحد الذين عايشتهم خلال مهمة المراقبة، بالرغم من كل ذلك فإن حيّ بابا عمرو سيبقى حيا في قلوب الملايين من شرفاء الإنسانية، وسيبقى خالدا يتحدّى الظلم والقهر والجبروت، ويلهم الشعب السوري وكل الشعوب المقهورة معاني الإباء والانتفاضة في وجه غطرسة الطغاة وأزلامهم.
فقد ظنّ حافظ الأسد أنه قهر حماة غير أنه رحل وبقيت حماة شامخة بشهدائها وجراحها، وثار الأبناء في وجه الابن. لكن بابا عمرو سيصنع الاستثناء كعادته ويحطّم أوصال المعادلة الأسدية هذه، ولن يعطي فرصة أبدا لبشار حتى يهنأ، ولا يمكن أن يصمت السوريون إلى أن يثور الشعب مجددا في وجه "حافظ "جديد بعد سنوات، لأنهم حسموا أمرهم ومصيرهم ولو أبيدوا جميعا، على مرأى عالم لا يتقن إلا لعبة المصالح على حساب الأبرياء والضعفاء الذين يحميهم قانون دولي وإنساني صار يكال بمكيالين للأسف الشديد.
ظل هذا الحيّ واقفا يصدّر للعالم مشاهدا من الدمار والخراب، وجرائم حرب يندى لها جبين الإنسانية لو بقي في هذا العالم أدنى معنى لهذه الإنسانية، فالجثث تحرق وتسحل والأطفال يقتلون ويعذّبون وهم في مهدهم، والنساء يتعرضن للاغتصاب الجماعي، والمباني تقصف بأسلحة ثقيلة، وتمّ استعمال حتى غازات سامّة ظهرت في ملامح الضحايا المشوّهة بطرق فظيعة.
لقد كنت متلهفا جدا لأن أرى حيّ بابا عمرو خصوصا وكل الأحياء الثائرة عموما، وكم تمنيت أن أزوره وأقف على الحقيقة التي -بلا شك- تظل جوانب منها كثيرة مغيبة عن هذا العصر الفضائي بامتياز، بالرغم من الجهود التي تبذلها بعض القنوات ووسائل الإعلام. وشاءت المقادير أن أكون ضمن البعثة العربية لمراقبة الوضع السوري من خلال بروتوكول موقع بين الحكومة السورية والجامعة العربية، حيث جردت نفسي من كل الأحكام والمعلومات المسبقة، وأقسمت أغلظ الإيمان بيني وبين نفسي على قول الحقيقة ولو كانت في صالح الشيطان!!
لما وصلنا إلى دمشق مساء يوم الاثنين 25 ديسمبر/كانون الأول المنصرم على متن طائرة خاصة، اجتمعنا ليلا في جلسة مغلقة بالفندق مع الرئيس الجنرال محمد مصطفى الدابي وأركان غرفة عمليات البعثة بدمشق، وبعد التعارف والحديث عن المهمة وحيثياتها وتشابكاتها المختلفة، تقرر سفرنا صباح اليوم الموالي مباشرة، الثلاثاء 27 ديسمبر/كانون الأول 2011، إلى مدينة حمص التي تلتهب وعلى رأس ذلك حي بابا عمرو طبعا، فضلا عن الضغوط التي مارستها المعارضة لأجل الوقوف على المشهد هناك، وهو الذي أقرّ به الجنرال الدابي والسفير سيف اليزل وغيرهما.
تطوعت لأن أكون من بين العشرة المبشرين بالحج نحو حمص، والذين سينالون شرف دخول مدينة تصنع الحدث بالعالم، في أول عمل للبعثة العربية تحت إطار أول مهمة مراقبة في تاريخ الجامعة العربية. من دون الخوض في تفاصيل الرحلة مع الجنرال السوداني وما دار بيننا من حديث في الطريق حيث كنت معه في سيارة واحدة، عبر مسافة تصل لحوالي 160 كلم. ومن دون خوض أيضا في تفاصيل الاجتماع الذي عقدناه مع محافظ حمص اللواء عبد العال غسان الذي أعطانا صورة سوداوية معقدة عن الوضع من خلال ما سماها "جماعات إرهابية" تسيطر على حي بابا عمرو، بل أحيانا يلتفت نحوي بعدما تعرف علينا جميعا، وهو يضرب أمثلة بما عرفته الجزائر من أحداث خلال العشرية الدموية.
غير أنه من الضروري التأكيد على أن قرار الفريق أول مصطفى الدابي بالدخول لحي بابا عمرو أربك المحافظ، والذي راح يؤكد لنا أننا نتحمل المسؤولية التامة والكاملة فيما يتعلق بأمننا وحمايتنا، بل حاول تخويفنا من تصفيتنا من قبل "الجماعات الإرهابية" المرابطة هناك والتي تحتجز المدنيين والسكان على حدّ ادعاءاته. لكن الدابي أصرّ على الذهاب ومن دون حماية من قبل الجيش والمخابرات الذين لا يمكنهم التجرؤ على الدخول لحي بابا عمرو الثائر. أكملنا طريقنا من دون حماية لأن الحراسة المرافقة لنا توقفت في شارع البرازيل الذي أدركنا لاحقا مدى سيطرة القناصة التابعين للنظام على البيوت فيه واتخاذ العوائل كدروع بشرية ومنعهم من الخروج أو الدخول.
أول ما وقفنا على مدخل الشارع الرئيسي لبابا عمرو هالني وصدمني مشهد الدمار الذي حلّ به، وجدناه خاليا لأن السكان غادروا خراب بيوتهم منذ أيام، وظهر الحي عبارة عن مقبرة لا حياة فيها أبدا، فالدخان يتصاعد، والجدران مهدمة، وآثار الرصاص في كل مكان، حتى بقع الدماء لم تجف بل بينها الحديث جدا وقع قبل دقائق من وصولنا.
بعد لحظات من بلوغنا الحيّ، انسلّ السكان إلينا جماعات تترى من أجداثهم يستنجدون بنا ويشتكون وضعهم البائس، كان حالهم سيئا وظروفهم لا يمكن تصورها ولو في الأفلام الخيالية. لم نلبث إلا حوالي ساعة واحدة حتى صار عددهم بالآلاف يهتفون بسقوط النظام ومحاكمة بشار الأسد وإعدامه، شعار يرفعه الشيخ الطاعن في السنّ، ويردده الصبي الذي لا يقدر على الكلام، وتزغرد له النساء، ويهتف له الشبان، ويلحّ عليه مسلحون لم يخفوا أنفسهم، بل تقدموا إلينا وفي أيديهم أسلحتهم الخفيفة وبطاقات الهوية العسكرية.
فقلت حينها للدابي لو كان هؤلاء من "الجماعات الإرهابية" ما خرجوا لنا من اللحظات الأولى وما عرّفونا على أنفسهم، بل ربما يراوغ الناشطون على تكذيب أطروحة وجود المسلحين في حي بابا عمرو. أذكر أن الجميع هتفوا للجيش الحر ورددوا كل الشعارات الطيبة تجاهه، وفي ظل حمى الحديث معنا ونحن قد تهنا في طوفان عارم، لا أسمع غير كلمة واحدة: "لولا الجيش الحر لذبحونا"، "الله محيي الجيش الحر".
لقد وقفنا على قتلى ومعذّبين وجرحى ومسلوخين ومسحولين وممزقين لأشلاء ومقطعي الأوصال، وتمّ قنص المدنيين أمامنا بينهم الفتى أحمد محمد الراعي الذي لن أنساه ما حييت، ووجدنا آثار الرصاص وبقاياه في كل مكان، والمتفجرات والمقنبلات لم تتوقف عن استهداف الحي أمامنا، بل لم نتمكن من المرور في بعض الشوارع، لأن القناصة المتمركزين في أسطح العمارات لم يترددوا لحظة في استهداف المدنيين الذين يتجرؤون على قطع ذلك الطريق المحرّم والمؤدي نحو حاجز كفرعاية، الذي بدوره يقطع أوصال الأحياء، ويمنع الناس من التنقل ويفرض عليهم العيش تحت ركام بيوت مهدّمة ومهددة بالقصف القادم من جهات خارج الحي يسيطر عليها الجيش بدباباته وأسلحته الثقيلة.
على مدار أيام قضيتها مترددا على حي بابا عمرو على غرار أحياء أخرى، أدركت شيئا واحدا يجمع عليه الجميع وهو أنه لا خيار ثالث لأهله بين الموت أو النصر، فلم أسمع من أحد ولو كلاما عابرا -على سبيل الملل أو اليأس أو حتى المداعبة إن كان لها مجال- عن أنه يمكن لحي بابا عمرو أن يتوقف عن الثورة والمطالبة بمحاكمة بشار الأسد وأركان نظامه، كان الجميع على نغمة واحدة لا يختلف فيها الصبي عن الشيخ البالغ من الكبر عتيا، أو طفلة عن عجوز مفجوعة بتشييع أحفادها.
تحدثت مرات ومرات مع العماد آصف شوكت -وهو صهر الرئيس بشار الأسد الذي ظلّ مقيما بيننا في فندق السفير بحمص، وبرفقته وزير الداخلية اللواء محمد الشعار- وكان دوما يحرص على تأكيد أن سوريا ضحية "الإرهاب" العابر للقارات والمؤامرات الكونية، وما تمرّ به هو نفسه ما عاشته الجزائر من قبل.
بعدما قمنا بإجلاء حاجز عسكري كان محاصرا في المؤسسة الغذائية بحي بابا عمرو، وفي ظروف سيئة للغاية حيث ظلّ محاصرا من قبل الجيش الحرّ، وبينه جرحى وقتلى أخبرني أحدهم إلى جانب شواهد أخرى بأنه تم إعدامهم لأنهم حاولوا الهروب والانشقاق، سألت آصف شوكت عن أسباب عجزهم عن تحرير أكثر من ستين عسكريا وبآليات معطوبة، أجاب بعنجهية الطغاة: "بإمكاننا نسف ومسح حي بابا عمرو في 15 دقيقة، ولكن خوفنا من شيء واحد فقط"، كنت أعتقد أن الأمر يتعلق بالمدنيين من أطفال ونساء وشيوخ وعجزة ومرضى وجرحى، غير أنه فاجأني بقوله: "لديهم أجهزة متطورة تبث مباشرة مع قناتيْ الجزيرة والعربية"!
تعجبت من هذا الردّ السخيف الذي لا يمكن إدراجه إلا في خانة واحدة تتعلق أساسا باستعصاء وصمود حي بابا عمرو، وإصرار النظام على دمويته حتى آخر رمق للأهالي، فقد حاولوا بالقصف والاختطاف والعمليات العسكرية القذرة، وحاولوا باستعمال الوسائل الاستخباراتية لأجل بثّ الفتنة بين السكان، واستعملوا رجال الدين وأعيان بعض العشائر والجمعيات المدنية...، غير أنهم فشلوا في كسر إرادة بابا عمرو في تحدي النظام والثورة عليه بوجوه عارية وصدور تواجه القنص ورصاص متفجّر محرم دوليا.
لقد استغلوا البعثة العربية لأيام عبر تجنيد عناصر استخباراتية وخاصة العراقية منها، كانت تحدد الأماكن الحساسة التي يتمركز فيها عناصر الجيش الحر والنشطاء البارزين على غرار خالد أبو صلاح وصحبه، حيث تأكدت لاحقا أن النقاط ذات الأهمية التي وقفنا فيها ومعنا المشكوك في أمرهم، من بينها مثلا البيت الذي التقينا فيه بضباط الجيش الحر وبعض المشافي الميدانية ونقاط التفتيش التابعة للمعارضة، قد تمّ قصفها في أول العمليات العسكرية التي استهدفت بابا عمرو في الآونة الأخيرة، مما يعني أنها من بين الأهداف الإستراتيجية المحدّدة مسبقا.
وأذكر أن البعثة العراقية مكونة من ضباط استخبارات ينتمون للطائفة الشيعية فقط، وكانت بحوزتهم هواتف نقالة متطورة ولم يقوموا بتغيير شرائحهم الأصلية، وظلّوا على اتصال دائم مع جهات نجهلها، من خلال هواتفهم التي جلبوها معهم فيها خاصية تحديد المواقع «GPS» طبعا، إلى جانب هواتف أخرى بها شرائح سورية لإبعاد الشبهات عنهم يتمّ استعمالها في التواصل الداخلي في إطار عمل المراقبين.
الحقائق كثيرة ومتشعّبة ولا يمكن حصرها في مقال عابر، غير أن الشيء الذي يجب التأكيد عليه أن حي بابا عمرو كان نقطة سوداء في أجندة الأجهزة الاستخباراتية السورية، ولذلك يعتبر دخول الجيش النظامي إليه مسألة تحدّ، ولو على حساب المدنيين والأطفال والنساء والعجزة. غير أن الدخول إليه واحتلاله بعد تدمير ما تبقى من ركامه ورماده، وإبادة المدنيين وإعدامهم والسير على جثثهم، لا يمكن أن يعتبر انتصارا للنظام السوري، بل هو هزيمة نكراء لا يمكن وصفها، لأن سكان الحيّ صمموا على الانتصار أو الشهادة، ولم ينجح أحد في ثنيهم عن إرادتهم الحية التي أذهلتني، بالرغم من أن الكثيرين منهم أميون وبسطاء وفقراء، ولا تجربة لهم في عالم السياسة والصراعات القائمة.
فضلا عن أن لجوء نظام حاكم يتبجح بشرعية موهومة إلى هذا الحلّ الأمني الذي يخالف كل الأعراف البشرية والدولية، هو في حدّ ذاته دليل قاطع على أنه بلغ مرحلة اليأس، لذلك يغامر بأساليب انتحارية وانهزامية تغرق الآخرين معه.
واهم من يزعم أن مجرد دخول قوات آصف شوكت -الذي كان يدير العمليات من فندق السفير بحمص- إلى حيّ صامد تحدى القذائف والصواريخ والمقنبلات والقناصة والغازات السامة أشهرا وليس أسابيع كما يخيل للبعض، هو انتصار ومنعطف سلبي في عمر الثورة السورية. بل الحقيقة أن إبادة بابا عمرو أنجبت مئات الأحياء الأخرى الثائرة. ولما ظنّ النظام أنه بمحو حيّ شعبي من الخريطة سيؤدي إلى إخماد الثورة، ساء مصيره ووجد نفسه في وجه أعاصير قوية بأحياء أخرى توزعت عبر التراب السوري كله.
بالرغم من أنهم ذبحوه وقتلوه ونسفوه وسلخوا جلده، ولم يبق منه غير أطلال من أطلال وقفت عليها رأي العين، وبالرغم من أن العالم صمت بخزي لا يمكن تخيله، ويوميا أتلقى خبر موت أحد الذين عايشتهم خلال مهمة المراقبة، بالرغم من كل ذلك فإن حيّ بابا عمرو سيبقى حيا في قلوب الملايين من شرفاء الإنسانية، وسيبقى خالدا يتحدّى الظلم والقهر والجبروت، ويلهم الشعب السوري وكل الشعوب المقهورة معاني الإباء والانتفاضة في وجه غطرسة الطغاة وأزلامهم.
فقد ظنّ حافظ الأسد أنه قهر حماة غير أنه رحل وبقيت حماة شامخة بشهدائها وجراحها، وثار الأبناء في وجه الابن. لكن بابا عمرو سيصنع الاستثناء كعادته ويحطّم أوصال المعادلة الأسدية هذه، ولن يعطي فرصة أبدا لبشار حتى يهنأ، ولا يمكن أن يصمت السوريون إلى أن يثور الشعب مجددا في وجه "حافظ "جديد بعد سنوات، لأنهم حسموا أمرهم ومصيرهم ولو أبيدوا جميعا، على مرأى عالم لا يتقن إلا لعبة المصالح على حساب الأبرياء والضعفاء الذين يحميهم قانون دولي وإنساني صار يكال بمكيالين للأسف الشديد.
المصدر / نافذة مصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق