الأحد، 3 فبراير 2013

ســـــفــيــنـــة الـمـجــتــمــع


مثل القائم على حدود الله والواقع فيها؛ كمثل قوم استهموا على سفينة؛ فأصاب بعضهم أعـلاها وبعـضهـم فكان الذين في أسفـلها إذا اسـتـقـوا من الماء مـروا على من فوقهـم،
 فقالوا: لو أنَّا خرقنا خرقًا ولم نؤذمن فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، 
وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعًا) 
[البخاري، (2313)].


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)

[البخاري, (12)].

عبارة نبوية محكمة موجزة، تحتوي على سر عظيم من أسرار فن الاتصال الفعال،


 إنه البعد عن الأنانية والتمحور حول الذات، والنظر إلى الحياة من منظور ضيق، 

كما يجري على ألسنة بعض الناس :

 مصلحتي أنا فقط، أنا ومن ورائي الطوفان.


أما المؤمن فتتسع نظرته لتشمل العالم كله، ويصير همُّه تحقيق المصلحة لنفسه وللآخرين في آنٍ واحد،

ويصبح تفكيره تفكير المنفعة للجميع :

 كيف أفيد نفسي وأفيد الآخرين؟

 

سـفـيـنــة واحـــدة :

بل يوضح لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن كل فرد مسئول عن مصلحة مجتمعه، وعليه حفظه ورعايته؛ فيقول صلى الله عليه وسلم:

(مثل القائم على حدود الله والواقع فيها؛ كمثل قوم استهموا على سفينة؛ فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، 

فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعًا) 

[البخاري، (2313)].

وهكذا يُخرِج الإسلام للإنسانية شخصية متزنة، تراعي مصلحتها ومصلحة الآخرين، وتحرص على تحقيق المنفعة للذات وللغير.

فلنبنِ حياتنا على هذا المبدأ "المنفعة للجميع"،

 وليكن أساس تعاملنا مع أي فرد هو:

 أن أنتفع وأنفعه، أو كما يعبر عنه بعض علماء التنمية البشرية :

 أفوز أنا وأنت.

حوار شعاره المنفعة للجميع :

انظر مثلًا إلى هذا الحوار بين شعيب وموسى عليهما السلام، يقول تعالى في كتابه على لسان شعيب:

(قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) [القصص: ٢٧].

فهنا يعرض شعيب عليه السلام على سيدنا موسى عليه السلام منفعة، وهي أن يزوجه ابنته، على أن يبادله موسى منفعة أخرى، ألا وهي أن يرعى له غنمه ثماني سنوات، فإن تبرع بسنتين فمن عند موسى، ثم يذكر له أنه ليس الهدف أن يشق عليه.

فيرد موسى عليه السلام بالموافقة على هذا الاتفاق، بل وانظر إلى عظم أخلاق موسى عليه السلام، ونبل خلاله، 

فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(سألت جبريل: أيُّ الأجلين قضـى موسى عليه السلام؟ قال: أبرهما وأوفاهما)[ صحيح الجامع، (5904)].

 

حتى مع الأعــداء:

بل حتى مع اليهود، يتعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم على أساس المنفعة للجميع، فحينما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، عقد مع اليهود معاهدة على أن يدافعوا مع المسلمين عن المدينة، وأن يحافظوا على أمانها واستقرارها، ولهم حريتهم الدينية الكاملة ولهم الأمان الكامل.

[سيرة ابن هشام، (1/501)]

 

التمساح والعصفور:

هل رأيت هذا المشهد العجيب من قبل؟! إنه مشهد تمساح ضخم شرس يفتح فاه المليئ بالأنياب والضـروس القاتلة؛ يفتحه لعصفور صغير ليدخل فينظف فاه، ويلتقط منه بقايا الطعام المتعلقة بأسنانه، ثم يخرج بعد ذلك في أمان وسلام.

ولكن لماذا لا يُغلِق التمساح فاه على العصفور ليأكله ؟ 

ولماذا لا يخاف العصفور من غدر التمساح ؟

والإجابة بسيطة، إنها المنفعة للجميع في أسمى صورها.

التصورات الخمس:

ولكي نتيقَّن من أن تصور المنفعة للجميع هو التصور الأنفع في علاقاتنا مع الآخرين، دعنا نقارن بين تصورات التفاعل الإنساني مع الآخرين، وهي التصورات المحتملة لتعامل البشـر مع بعضهم البعض،

وهـي كما يـلي:

 

1. أفوز أنا وتخسر أنت:

أو بمعنى آخر تفكير المنفعة للذات، والضرر للآخرين، والشخص الذي يُفكِّر بهذه الطريقة يغلب عليه الطابع الأناني، فهو يريد أن يُحقِّق المصلحة لنفسه على حساب، ويعتقد أن الحياة قائمة على الصـراع،

وبالتالي إذا أراد الحصول على حقه في هذه الحياة؛ فإن ذلك يوجب أن يتنازل آخرون عن حقوقهم.

وعلامة المتبني لهذا التصور أنه يُسَر بنجاحه الشخصي، وفي الوقت ذاته لا يسر، بل يحزن لنجاح الآخرين، وعلى العكس تصيبه سعادة داخلية خفية إذا سمع برسوب أو فشل أحد زملائه أو منافسيه.


2. أخسر أنا وتفوز أنت :

في أثناء تفاعلاتك اليومية ستجد أشخاصًا ليس لهم شخصية أساسًا، ولا يملكون قرارهم، بل قرارات حياتهم بيد غيرهم، ولا يُعبِّرون عن آرائهم ولا وجهة نظرهم، بل الرأي ما رآه الآخرون، والسير إلى ما أشار إليه الآخرون؛ فهم يرمون بأنفسهم حيث أشار الآخرون.

وعلامة أصحاب هذا الفكر؛ أنك حين تتعامل مع أحدهم تشعر أنه ليس له شخصية من الأساس، وتجده يوافقك في كل ما تقول، ولا يختلف معك في أي حرف، ولا يقترح عليك أي فكرة، فهو مستسلم تمامًا لكل ما تقوله له.


3.أخسر أنا وتخسر أنت:

بعض الناس يسيطر عليهم حب الانتقام، والثأر من الآخرين، وإلحاق الأذى بهم وبأي ثمن، حتى ولو كان ذلك يعني أنه سيؤذي نفسه، ولسان حاله يقول (الهلاك للجميع)، إنها فلسفة الحرب، فلسفة عدم التفاهم، ورفض الحوار.

هذه حالة طلاق عند الغرب، فرض فيها القاضي على الزوج أن يبيع كل ممتلكاته، ويُحوِّل نصف العائدات إلى حساب زوجته السابقة.

ولأنه يريد إلحاق الضرر بزوجته بأي طريقة، حتى ولو كان ذلك يعني أن يؤذي نفسه أيضًا؛ باع سيارة قيمتها أكثر من عشـرة آلاف دولار بخمسين دولارًا، حتى يعطى زوجته السابقة 25 دولارًا فقط ، وعندما احتجت الزوجة؛ فحص كاتب المحكمة الأمر، واكتشف أن الزوج كان يسير على نفس الطريقة في جميع الممتلكات.

ولاشك أن هذا النوع من التفكير هو أخطر أنواع التفكير على الإطلاق، وفيه هلاك الحياة البشـرية،

ومن المستحيل أن تقوم أي حضارة أو نهضة في أمة من الأمم إذا سيطر على أفرادها هذا النوع من التفكير.

وعلامة أصحاب هذا الفكر؛ أنك ترى أحدهم يجعل جل تركيزه على العدو؛ ويصبح في حالة غيبوبة عن كل شيء، فيما عدا رغبته أن يخسر الشخص الآخر، حتى ولو كان ذلك يعني خسران نفسه.


4. أفــوز أنا فـقــط :

ومثل هذا النوع يبحث عن مصلحته فقط، ولا يهتم بمصلحة غيره، وتجد مثل هذا الشخص سلبيًّا جدًّا في أي شيء يحدث للآخرين، طالما أنه لم يصبه سوء، وأمثال هؤلاء لا يحملون همَّ أمتهم ولا همَّ إخوانهم وأصدقائهم، بل كل همه مصلحته الشخصية، وأهدافه الشخصية.

وهؤلاء تأثيرهم في الحياة ضعيف؛ نظرًا لانكفائهم على مصلحتهم الذاتية فقط، وعدم اهتمامهم بمصلحة المجموع.

 

5. نفوز جميعًا:

وهؤلاء هم الرجال، الذين يسيطر على فكرهم تحقيق المصلحة لأنفسهم وللآخرين في نفس الوقت، تجد أحدهم يراعي احتياجاته ومصالحه، وفي نفس الوقت يراعي احتياجات ومشاعر الآخرين.

وحينما يتخذون قراراتهم فيما بينهم؛ يتخذونها على أساس تحقيق المنفعة للجميع، وأن ننتفع بهذا القرار، وننفع الناس، وننفع الأمة به.

 

 .. حــدد هــدفــــك .. وانـطـلــــق .. 

 

سـؤال منـطـقـي :

وإليك سؤال منطقي، وهو: 

أي الخيارات أفـضــل ؟

 لاشك أن الحياة الإنسانية مبنية على أصل هام؛ ألا وهو الاجتماع البشـري، والتعاون فيما بين الناس لتحقيق مصالحهم، وبالتالي نجد أن خيار المنفعة للجميع هو الخيار الوحيد الذي يكفل حياة مستقرة وآمنة للبشـرية، وإلا تعرضت البشرية جمعاء لاضطراب شديد، ولمخاوف دائمة، وهذا ما نراه اليوم في عالم تسود فيه فلسفات النفع للذات والضـرر للآخرين، أو الضرر للجميع.

وهذا ما يؤكده ستيفن كوفي حين يقول: (أغلب المواقف في الحقيقة تكون جزءًا من واقع يتطلب التعاضد والتعاون بيننا وبين الآخرين، وعندئذ تكون فلسفة المنفعة للجميع هي الخيار الوحيد من الخيارات الخمسة القابلة للتطبيق)[ العادات السبع لأكثر الناس فاعلية، ستيفن كوفي، ص(298)].

فالمتأمل يجد أن جميع أنواع التفكير الأربعة الأخرى تقود حتمًا إلى نتيجة واحدة؛ وهي أنك تضر نفسك وتضر الآخرين.

فمثلًا لو كنت صاحب متجر، وطبقت مع أحد الزبائن فلسفة النفع للذات والضرر للآخرين، فبعت له البضاعة بسعر أغلى؛ أنت تعتبر نفسك بذلك فزت، لكن الحقيقة هي أنك خسرت هذا الزبون؛ لأنه بالتأكيد سيسمع عن السعر الحقيقي، وساعتها سيقرر أن يوقف التعامل معك، بل قد ينشر عنك سمعة سيئة، مما يكبدك خسائر أكبر وأكبر.


وأما إذا كنت تتعامل مع شخص فلسفته الضـرر للذات ومنفعة الآخرين، ربما يبدو أنك تحصل على ما تريده في اللحظة الحالية؛ لكن إلى أي مدى سيؤثر ذلك على حب الشخص بالنسبة للعمل معك، والوفاء والالتزام بالعقد؟

بالتأكيد لن يشعر بسعادة في التعامل معك، وسيكتم غيظه في نفسه، وربما سيقوم خلال أي مفاوضات في المستقبل بمعارك تنزل الأذى بك، ويسعى دائمًا إلى الانتقام منك، والثأر لهذه الصفقات التي ضاع فيها ربحه؛ ولذا فإننا نكون مرة أخرى داخل فلسفة الضـرر للجميع.

وإذا ما ركزت على أن تكسب، دون وضع أي اعتبار حتى لوجهة نظر الطرف الآخر؛ فسيشعر الطرف الآخر أنك غير مهتم به، وأنك غير حريص على مصلحته، ولن يشعر بالأمان تجاهك،

وبالتالي تكون مرة أخرى قد خسـرت الشخص، ولم تكتسب علاقة قوية معه، وبالتالي فكلاكما خاسر أيضًا.

بل إن مساعدة الآخرين لكي يفوزوا هو أٌقصر طريق لفوزك الشخصي، كما يقول "زيج زيجلر":

(تستطيع الحصول على كل شيء تريده في الحياة إذا قمت فقط بمساعدة عدد كاف من الآخرين على الحصول على ما يريدونه)[أراك على القمة، زيج زيجلر، ص123].


ويلخص لنا "ستيفن كوفي" معنى تفكير المنفعة للجميع فيقول: 

(إن التفكير بتحقيق المنفعة للجميع هو إطار ذهني وقلبي يدفعك إلى تحقيق المنفعة المتبادلة والاحترام المتبادل في تفاعلاتك مع الآخرين كلها،

إنه تفكير الوفرة والفرص الكثيرة،

 وليس تفكير الندرة والمنافسة المضادة، 

إنه عكس التفكير الأنان : (أنا أربح ــ أنت تخسر)، 

أو أن تلعب دور الشهيد : (أنا أخسر ــ أنت تربح )،

 إنه التفكير بطريقة (نحن) وليس (أنا)[العادة الثامنة، ستيفن كوفي، 214].

ولكن كيف تطبق مبدأ المنفعة للجميع بصورة عملية واضحة؟؟؟

 


فريد مناع

___________

أهم المصادر:

1- العادات السبع لأكثر الناس فاعلية، ستيفن كوفي.

2- العادة الثامنة، ستيفن كوفي.

3- أراك على القمة، زيج زيجلر.

4- سيرة ابن هشام.

نقلا عن /  - منتديات هاي ياعرب - بعنوان : القمة تتسع لنا جميعا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق