رسالة من: أ. د. محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد..
منذ أن قامت ثوراتنا المباركة التي هي من صنع الله وهي تتعرَّض لمحاولات حثيثة ومغرضة لتعويقها والالتفاف عليها وتفريغها من مضمونها، من فلول النظم السابقة والمنتفعين منهم، وكانت هذه المحاولات تزداد كلما اقترب أي استحقاق قانوني لتسليم السلطة لممثلي الشعب المنتخبين.
ومع امتداد الفترة الانتقالية اتسعت الهوَّة بين شركاء الوطن وعناصر الثورة التي قامت على أكتافهم، وحيت بدمائهم واشتدَّ عودها بأرواحهم، وسوف تؤتي أكلها عما قريب بإذن الله بما ظهرت عليه الشعوب العريقة من أصالة وحيوية وتعاون واتحاد وإخلاص.
وكان نتيجة التنافسات الانتخابية أو القناعات الفكرية أو المواقف الحزبية أو الموروثات التي خلَّفتها النظم البائدة بسياساتها الفاسدة وإعلامها الخبيث؛ أن حدثت هوَّة ونشبت خلافات تحتدم بشدة أحيانًا وتهدأ حرارتها أحيانًا أخرى، وأدى ذلك إلى زيادة نسبة انعدام الثقة بينهم، ولو أنها كانت على المستوى الأيديولوجي أو المستوى الشخصي لكان الأمر طبيعيًّا ومقبولاً ..
(ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ولا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود: 18)
أما حينما تكون المخاطرة بالمصلحة العامة ومكتسبات الثورة ومستقبل الوطن؛ فإن الأمر يوجب على كل الشرفاء والمخلصين التخلِّي عن الحزبية، وتعزيز الشعور بالتبعة، وتناسي المصالح الدنيا، والانشغال أكثر بالهمّ العام، والحال الوطني الكبير، خاصةً إذا علموا أن هذا التمزيق والتفريق متعمَّد،
حذرنا الله عز وجل منه فقال لنا:
(ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ واصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 46)،
ونبهنا إلى هذا الجهات وحذرنا من السماع لهم وتنفيذ مخططهم وقال لنا:
(يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) (التوبة: من الآية 47).
وكان من ضمن ما يؤرقه من الفتن ادِّعاء تسلُّط الأغلبية كذبًا وزورًا وبهتانًا، فهل اقترفت الأغلبية ذنبًا أن جاءت بالإرادة الشعبية الحرة وصوته الحي حتى تُحارب؛ لا لشيء إلا لأنها أغلبية تتخذ مرجعيتها من الإسلام؟! وهل يليق بالبعض محاولة تفريغ الأغلبية من دورها المستحق وحقها المشروع بانتخابات نزيهة شفافة وبإرادة وطنية حرة، أبهرت المراقبين لها لأول مرة منذ أمد بعيد؟!
وهل من اللائق بوطن قضى تحت قهر الظلم أعوامًا ولبث في الكبت السياسي أحقابًا وعانى من سلطة الاستبداد والتسلُّط؛ أن يتحرَّر بثورة بيضاء ليعود سيرته الأولى لأن الأغلبية لا تُرضي البعض أو ليست على هوى آخرين؟! على أنها في كل هذا منزوعة الصلاحية مكبَّلة الأيدي محرومة من تحقيق دورها وأداء واجبها الذي يرنو إليه المواطن البسيط الذي يحسب الحكومة بعد الثورة شيئًا فإذا هي سراب يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، بل إنها تمضي في افتعال الأزمات وترويج الشائعات وتأليب الرأي ضد استكمال مشروع بناء الوطن وتأسيس الاستقرار.
وفي الوقت الذي لم تُجهز فيه الثورة على بقايا النظام البائد انطلقت الأيادي الآثمة الكامنة تعبث في الخفاء لتعويق التحول الديمقراطي بافتعال أزمات، وتضخيم أخرى، وإعاقة التقدم بكل ما تملك من قوة.
لكن إرادة الله كانت وما زالت وستظل غالبةً في كشف ألاعيبهم وحيلهم وبوار مكرهم وتباب كيدهم، وهو ما تمثَّل في رفض تشكيل حكومة ذات صلاحيات حقيقية معبرة عن إرادة الشعب، بل وصل الأمر إلى التلويح بحل المجالس المنتخبة شعبيًّا، ووضع العقبات أمام إعداد الدستور؛ بهدف تعويق إعداد الدستور- غير المختلف في مضمونه- في المدى الزمني المحدد له، ووصل الأمر إلى الدفع بمرشحين للرئاسة من سدنة وخدام النظم الفاسدة السابقة وصانعي قرارها، ودعمهم من الفلول وأعداء الثورة، والذين انقلبوا على أعقابهم خاسرين بعد أن وصفوا من قاموا بالثورة بالمأجورين وأنها من صناعة عملاء وخونة.. اليوم يعودون في ثياب المصلحين؛ في محاولة لاستنساخ النظم الساقطة الهالكة مرةً أخرى، وهو ما ينذر بإجهاض الثورات وجعلها كأن لم تكن، وكأننا لم نقم بثورات ولم نقدم شهداء ودماء على طريق الثورات المباركة.
وهكذا تتضح معالم المؤامرة الكبرى التي بدأت بمحاولات تعويق عملية التحول الديمقراطي، ومحاولة إفراغ المؤسسات التشريعية المنتخبة من سلطاتها، بل وتحميلها نتائج فشل النظم السابقة وفسادها ومحاولات إفشال وضع الدستور الدائم للبلاد، والتهديد بحل المؤسسات المنتخبة وتصدير الأزمات واتباع سياسة الأرض المحروقة مع أي حكومة قادمة، وتعظيم مساحات الخلاف وتغذيتها عبر الحملات الإعلامية المكثفة التي تمَّ تحويلها في الفترة الأخيرة لتشويه الإخوان ومحاولة التأثير في صورتهم الذهنية لدى رجل الشارع، ثم يتم الدفع بمرشحين من سدنة النظام السابق في ظل حماية خاصة مثيرة للتساؤلات في رسالة واضحة لا يخفى مغزاها عن كل ذي لب، ويتواكب كل ذلك مع بعض الدعاوى لانفصال بعض الأقاليم كما حدث في بلاد شقيقة.
واجبات المرحلة
إن هذا المشهد الضبابي المرتبك يوجب علينا جميعًا كوطنيين مخلصين وشرفاء صادقين أن نتنبَّه إلى خطورة المؤامرة التي تحاك بأوطاننا؛ لإعادتنا إلى الوراء، وهو ما لن يحدث بإذن الله تعالى الذي وهبنا ثورتنا وحماها، ثم بجهد شعوبنا الأبية ووعيها.
كما يجب علينا جميعًا أفرادًا وجماعات، هيئات ومؤسسات، رسميين وشعبيين، مسلمين ومسيحيين، أن نتغلَّب على هذه الصعاب ونتجاوزها، وأن نفوِّت الفرصة على المتربصين بنا ومن يكيدون لنا؛ لجعلنا نيأس من ثوراتنا ونترحَّم على أيام الظلم والظالمين، وهذا ما لن يسمح به كل وطني غيور، وكثير ما هم، فالحرية عندنا أغلى مما في الأرض جميعًا.
أيها الشرفاء الوطنيون..
الاتحاد الاتحاد..
واستعادة روح الثورات المباركة، وتغليب المصالح العليا على المصالح الدنيا، وترجيح مصلحة الوطن على المصلحة الحزبية الضيقة، والالتقاء على المناطق المشتركة بيننا، وهي كثيرة جدًّا، والتفاهم حول المختلف فيه بيننا، وهو قليل جدًّا.
والحذر الحذر..
أن تجرفنا صغائر الأمور إلى غير جادة الطريق؛ فإن الله عز وجل يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها، فلا خلاف بيننا في احتياجنا لبناء الدولة الديمقراطية الحديثة القائمة على أسس ومبادئ المواطنة وسيادة القانون والحرية والمساواة والتعددية بكل أشكالها وأنواعها والتداول السلمي للسلطة، عبر صناديق الاقتراع، واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية.
والعمل العمل..
على ضرورة محاربة مظاهر الفساد في دوائر الدولة ومؤسساتها ومحاسبة الفاسدين والمفسدين مهما كانت مواقعهم وصفاتهم، مع ضرورة معالجة الوضع المعيشي المتدهور للمواطن وتحسينه والقضاء على ظاهرتي الفقر والبطالة.
والتوافق التوافق..
مع ضرورة إفساح المجال أمام كل الاتجاهات والتيارات السياسية والفكرية والحقوقية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ومنظمات المجتمع المدني وائتلافات الشباب في البلاد؛ لممارسة نشاطاتها وفعالياتها والتعبير عن آرائها وتوجهاتها وتمكينها من ممارسة دورها الوطني بحرية للمساهمة في بناء أوطانها ورفعة شأنها.
مرتكزات على الطريق
إن أهم ما يدعم عودتنا إلى روح ومبادئ وقيم الثورات المباركة أن تستيقظ فينا نخوة الأُباة وشجاعة الأبطال وجرأة الصادقين ونشر القيم الإنسانية السامية، وشيوع ثقافة الحب والود والتسامح والاحترام المتبادل والعيش المشترك بين جميع أبناء الأمة، والعودة إلى قلوبنا فنخليها من ضغائن الصدور وأحقاد الهوى التي هي الحالقة كما سماها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، وهي الحالقة؛ لا أقول حالقة الشعر ولكن حالقة الدين..".
فهذه هي مطالب جميع القوى السياسية والشعبية والحزبية، وهذا هو الطريق الأمثل للخروج من المأزق الذي يريد بعض الماكرين من بقايا الإفساد البائد أن يوقعونا في شركه، لكنَّ الأمة أوعى من أن يضحك عليها أحد أو تكون ألعوبة في يد ظالم رضي أن يكون سيفًا مصلتًا على رقاب شعبه ثم ينبري اليوم بخداع لا ينطلي ومكر لا يحيق إلا بأهله للسباق في استعطاف الشعب كي يمكنه من رقابه ليستأنف فيه فعل الأفاعيل وإضرام جحيم الفساد من جديد.
فادفعوا أيها الشرفاء دفعًا بوطنكم إلى القمة، وبشعبكم إلى المجد، وبمستقبلكم إلى الرفعة، وبأجيالكم الناشئة إلى ما هو نافع ومفيد؛ لنهضة بلادنا، وتقديم البرامج والوسائل العملية النافعة، ولنتعاون جميعًا في تقدمها ورقيها، وليكن تنافسنا تنافسًا شريفًا، بعيدًا عن التناحر المذموم الذي يوغر الصدور ويعيق التقدم، ولنتسامح فيما بيننا ولا نتصيَّد لبعض الأخطاء والهفوات ولا نُسِئ الظن ببعضنا ولنتحلَّ بآداب الخلاف والاتفاق والمعاملات فيما بيننا، ولنحمِ ثوراتنا وندافع عنها ونثبت أن ثوراتنا ما زالت شابةً فتيةً وأننا قادرون على حمايتها، بل وإعادة إنتاجها مرات ومرات حتى تتحقق جميع مطالبنا بصورة حقيقية وبإرادتنا الحرة.
أيها الناس أجمعون..
ليعلم الناس جميعًا أن الإخوان المسلمين لن يكونوا يومًا من الأيام في غير صفِّ الشعوب الأبية، ولم ولن يعملوا إلا لمصلحة الأوطان، وسوف يواصلون بذل النفس والنفيس في سبيل نشر الحق في ربوع الدنيا وإقامة نهضة الأمة ورفعتها، ويرحم الله إمام الدعوة ومجدد الفكرة الشهيد حسن البنا إذ يقول: "ونحب كذلك أن يعلم قومنا أنهم أحب إلينا من أنفسنا، وأنه حبيب إلي هذه النفوس أن تذهب فداءً لعزتهم إن كان فيها الفداء، وأن تزهق ثمنًا لمجدهم وكرامتهم ودينهم وآمالهم إن كان فيها الغناء، وما أوقفنا هذا الموقف منهم إلا هذه العاطفة التي استبدَّت بقلوبنا، وملكت علينا مشاعرنا، فأقضت مضاجعنا، وأسالت مدامعنا، وإنه لعزيز علينا جد عزيز أن نرى ما يحيط بقومنا ثم نستسلم للذل أو نرضى بالهوان أو نستكين لليأس، فنحن نعمل للناس في سبيل الله أكثر مما نعمل لأنفسنا، فنحن لكم لا لغيركم أيها الأحباب، ولن نكون عليكم يومًا من الأيام"..هذه هي مبادئنا وتلك هي قيمنا التي تربينا عليها ونربي عليها إخواننا.
إن التحديات جسام، والخطب جد خطير، وثوراتنا قاب قوسين أو أدنى من النجاح واستكمال مطالبها العظيمة، فلنتحدْ على كلمة سواء، ولنجتمع على ما فيه صالح البلاد وخير العباد، وإنما النصر صبر ساعة، ولتسعنا أخلاقنا كما وسعنا وطننا على اختلاف الملل والنحل، وسوف يأتي الله بنصره عن قريب
(أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)..
(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والله أكبر ولله الحمد.
القاهرة في: 20 من جمادى الأولى 1433هـ الموافق 12 من أبريل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق